الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين .. قال ابن كثير في التفسير : «وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ (يعني ليلة العقبة) : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال : «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم». قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال : «الجنة». قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل».
«ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة ؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة ؛ ويوثقون هذا البيع ، فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم ؛ وأنهم لن يعيشوا في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة ، وبين ظهرانيهم في المدينة» ..
... «فقد كان الأنصار إذن يعلمون ـ عن يقين واضح ـ تكاليف هذه البيعة ؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا ـ حتى ولا النصر والغلبة ـ وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة .. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها .. فلا جرم أن يكونوا ـ مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد ـ هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة ..
«ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء .. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة واضطر أفراد كثيرون ـ ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم ـ أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم .. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء : عبد الله بن أبي بن سلول : هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا ـ ولو لم يكونوا منافقين ـ ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه .. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ، ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
«وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.
«وحين نراجع السور المدنية ـ بترتيب النزول التقريبي ـ فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة المستمرة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع ـ على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ؛ ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد ـ وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة.
«ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين ـ وبخاصة في فترات الشدة ـ أعراض من الضعف والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر .. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية .. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.