الأنصار. أما الذين اتبعوهم بإحسان ـ الذين يعنيهم هذا النص وهو يتحدث عما كان واقعا إبان غزوة تبوك ـ فهم الذين اتبعوا طريقهم وآمنوا إيمانهم وأبلوا بلاءهم بعد ذلك ، وارتفعوا إلى مستواهم الإيماني ـ وإن بقيت للسابقين سابقتهم بسبقهم في فترة الشدة قبل بدر ، وهي أشد الفترات طبعا.
وقد وردت أقوال متعددة في اعتبار من هم السابقون من المهاجرين والأنصار. فقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل بدر وقيل : هم الذين صلوا للقبلتين. وقيل : هم أهل بدر. وقيل : هم الذين هاجروا ونصروا قبل الحديبية. وقيل : هم أهل بيعة الرضوان ... ونحن نرى من تتبعنا لمراحل بناء المجتمع المسلم وتكون طبقاته الإيمانية ، أن الاعتبار الذي اعتبرناه أرجح .. والله أعلم ..
ولعله يحسن أن نعيد هنا فقرات مما سبق أن فصلناه في الجزء العاشر عن مراحل بناء المجتمع المسلم وتكوّن طبقاته الإيمانية ، يكون حاضرا بين يدي قارئ هذا الجزء ، خيرا من إحالته إلى الجزء السابق ؛ لتكون هذه الحقيقة قريبة منه يتتبع على ضوئها ذلك التصنيف النهائي للمجتمع في الآيات التي نواجهها هنا :
«لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة ، فلم تكد الجاهلية ـ ممثلة في قريش ـ تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة : «أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله» وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله ؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ولرسول الله ؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.
«لم تكد الجاهلية ـ ممثلة في قريش أول الأمر ـ تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة .. وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة ؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة ..
«لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين ، في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركه قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض ..
«وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان .. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه لله ؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب ، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.
«بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عودا في المجتمع العربي ؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ؛ وكان هذا النوع قليلا ؛ فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب ؛ إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
«وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة مع السابقين من الأنصار ،