«ومن المعلوم أن بعض النصارى الذين قالوا : إن المسيح ابن الله كانوا من اليهود. وقد كان (فيلو) الفيلسوف اليهودي الإسكندري المعاصر للمسيح يقول : إن الله ابنا هو كلمته التي خلق بها الأشياء. فعلى هذا لا يبعد أن يكون بعض المتقدمين على عصر البعثة المحمدية قد قالوا : إن عزيرا ابن الله بهذا المعنى» ..
ومن هذا البيان يتضح ما وراء حكاية القرآن لقول اليهود هذا ـ في هذه المناسبة التي يتوخاها السياق ـ فهي تقرير حقيقة ما عليه فريق من أهل الكتاب من فساد الاعتقاد ، الذي لا يتفق معه أن يكونوا مؤمنين بالله ، أو أن يكونوا يدينون دين الحق. وهذه هي الصفة الأساسية التي قام عليها حكم القتال. وإن يكن القصد من القتال ليس هو إكراههم على الإسلام ؛ وإنما هو كسر شوكتهم التي يقفون بها في وجه الإسلام ؛ واستسلامهم لسلطانه ليتحرر الأفراد ـ في ظل هذا الاستسلام ـ من التأثر بالضغوط التي تقيد إرادتهم في اختيار دين الحق من غير إكراه من هنا أو من هناك.
أما قول النصارى «المسيح ابن الله» وأنه ثالث ثلاثة فهو ـ كما قلنا ـ شائع مشهور ، وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات ؛ ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة ، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائيا!
وسنكتفي مرة أخرى بنقل ملخص جيد في عقائد النصارى عن تفسير المنار للأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا ـ جاء فيه بعنوان : «ثالوث : Trinite ـ y»
«كلمة تطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معا في اللاهوت تعرف بالأب والابن والروح القدس ، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر ، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس ، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحا وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام. وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث ، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة ، وصفاتهم المميزة وألقابهم. ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس ، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث ، قد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت ؛ ولكن إذ كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدون أنه مذكور في العهد الجديد. وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم (أحدهما) الآيات التي ذكر فيها الأب والابن والروح القدس معا (والآخر) التي ذكر فيها كل منهم على حدة والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.
«والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي. وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف أنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة «ترياس» باليونانية ، ثم كان «ترتليانوس» أول من استعمل كلمة «ترينيتاس» المرادفة لها ومعناها الثالوث ، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق ؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء بأنها أراتيكية (١) ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض
__________________
(١) المراد بالأراتيكية المبتدعة ، من الأرتقة ، والأشهر الهرتقة ، وبعضهم يقول : هرطقة بقلب التاء طاء وأصله تفخيمها.