ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه ـ منذ الوهلة الأولى ـ كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول. وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق. وكل حرب تقوم للقهر والإذلال. وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن ، أو قوم على قوم ، أو جنس على جنس ، أو طبقة على طبقة .. ويستبقي نوعا واحدا من الحركة .. حركة الجهاد في سبيل الله .. والله ـ سبحانه ـ لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب. إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته. وهو غني عن العالمين. ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين.
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة ؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقا :
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح ، تعبير لطيف ، يلقي ظل الدعة الرقيق. فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم ، ويرخي ريشه في وداعة! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر. وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وموقفه كذلك منهم ، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم ، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يقاتله ؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية ، ولا للدولة المسلمة. وقد أمر الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يترك هذا الفريق ، وأن يقبل مهادنته ومسالمته (وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد ، أو كان له عهد غير موقت ، مدة أربعة أشهر ، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه) ومن ثم فهو ليس حكما نهائيا على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجردا عن هذه الملابسات ، ومجردا كذلك عن النصوص التالية له في الزمن ، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه. فقد عمل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ به ـ حتى نزلت سورة براءة ـ ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ..
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائيا ودائما ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية .. ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة ، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة. والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي ، أن يقال : إن هذا الحكم ليس نهائيا ؛ وأنه عدل أخيرا بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة (التوبة) والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام : إما محاربين يحاربون. وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله. وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا .. وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي. وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية ، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد :
قال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن يزيد ، عن أبيه ، عن