إن الإسلام ليس نظاما لاهوتيا يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب ، وتنظيما للشعائر ، ثم تنتهي مهمته! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ؛ يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية. فلا مفر للإسلام ـ لإقرار منهجه الرباني ـ من تحطيم تلك القوى المادية ، وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى ، وتقاوم المنهج الرباني ..
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة .. ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني. ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ؛ ولا لتقرير سلطان زعيم ، أو دولة ، أو طبقة ، أو جنس! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ؛ ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ؛ ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية .. إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير ؛ ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير «الإنسان» في «الأرض» من العبودية للعبيد ..
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ؛ وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي! والجهاد الإسلامي (١).
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة. فالنص يقول :
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ..
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها.
كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة :
(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) ..
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض. الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ؛ ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم ، أو لم يجهروا لهم بالعداوة ، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء ، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ؛ ولتكون كلمة الله هي العليا ، وليكون الدين كله لله.
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا ، وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل ، فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله :
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ـ فِي سَبِيلِ اللهِ ـ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) ..
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله ، من كل غاية أرضية ، ومن كل دافع شخصي ؛ ومن كل شعور قومي أو طبقي ، ليتمحض خالصا لله «في سبيل الله» لتحقيق كلمة الله ، ابتغاء رضوان الله.
__________________
(١) تراجع بتوسع الرسالة القيمة بعنوان : «الجهاد في سبيل الله» للسيد أبي الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في باكستان. كما يراجع ما كتبناه عن الجهاد في مقدمة سورة الأنفال ص ١٤٣١ ـ ١٤٤٣ من الجزء التاسع.