يزيد بن الخطيب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيرا ، وقال : «اغزوا باسم الله. في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام. فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» ..
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين ، مع ذكر الجزية .. والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة (بالقياس إلى الجماعة المسلمة الأولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن) والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية. ققبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس ، وهم مثلهم في الشرك ؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم. وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد (أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك ، وروى غيره عن أبي حنيفة) :
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه ، أن قول الله تعالى :
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
لا يتضمن حكما مطلقا نهائيا في الباب ، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة. إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد ، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين. وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة. فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية ـ وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم ـ أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ؛ ليكون الدين كله لله.
ولقد استطردت ـ بعض الشيء ـ في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن «الجهاد في الإسلام» ؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ؛ ويستكثرون على دينهم ـ الذي لا يدركون حقيقته ـ أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ؛ وأهله ـ الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعورا جديا ـ ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة .. وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى ليّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلا يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته!
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية ، فيجعلون منها نصوصا نهائية ؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة ، فيجعلون منها نصوصا مطلقة الدلالة ؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص