على ضوء هذا البيان لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، ولطبيعة الجهاد فيه وقيمته ، ولمنهج هذا الدين وخطته الحركية في الجهاد ومراحله .. نستطيع أن نمضي في تقييم غزوة بدر الكبرى ، التي قال الله سبحانه عن يومها إنه «يوم الفرقان» .. وأن نمضي كذلك في التعرف إلى سورة الأنفال ، التي نزلت في هذه الغزوة ، على وجه الإجمال.
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي ـ كما بينا من قبل ـ فقد سبقتها عدة سرايا ، لم يقع قتال إلا في واحدة منها ، هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة .. وكانت كلها تمشيا مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام. والتي أسلفت الحديث عنها من قبل .. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وللمسلمين الكرام ؛ ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ؛ وبتقرير ألوهية الله في الأرض ؛ وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس ، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده .. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده ؛ والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت ، تمشيا مع خطته العامة ؛ وانتصافا في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام ؛ ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان .. وإن كان ينبغي دائما ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر ـ ولا ننسى ـ طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتا يغتصب سلطان الله ؛ ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال!
أما أحداث هذه الغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها ، ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة ؛ وندرك مرامي النصوص فيها ؛ وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية ؛ وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى .. ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب!! إنما تدرك أولا وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي ؛ وفي واقعيتها الإيجابية ؛ وتعاملها مع الواقع الحي. وهي ـ وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثرا من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه ـ لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي .. ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم ، وفاعليتها المستمرة ، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم ؛ ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة ؛ ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين ، الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب .. وهم قاعدون! ..
قال ابن إسحاق (١) : ثم إن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش ، وتجارة من تجاراتهم. وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون .. قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير. وغيرهم من علمائنا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما .. كل قد
__________________
(١) واعتمد ابن كثير على ابن إسحاق في روايته للغزوة في كتابه : «البداية والنهاية» ولم يفترق المقريزي في «إمتاع الأسماع» عن هذه الرواية في كثير. وكذلك رواها باختصار الإمام ابن قيم الجوزية في «زاد المعاد» والإمام ابن حزم في «جوامع السيرة» وقد استقينا من جميعها