والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة. يسألونك كأنك حفي عنها! قل : إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. قل : لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله. ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون» ..
لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجئ المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة .. ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين إبراهيم ـ عليهالسلام ـ وهو جد هؤلاء المشركين ؛ وفي دين إسماعيل أبيهم الكريم ؛ إلا أنه كان قد طال عليهم الأمد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الإسلام الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل. حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماما من تصوراتهم ؛ فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم. حتى لقد كانوا يعجبون ويعجبون من رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ؛ وعن البعث والنشور والحساب والجزاء ؛ كما حكى عنهم القرآن الكريم في السورة الأخرى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ ، إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً؟ أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) .. (سبأ : ٧ ـ ٨).
ولقد علم الله أن أمة من الأمم لا تملك أن تقود البشرية وتشهد عليها ـ كما هي وظيفة الأمة المسلمة ـ إلا أن تكون عقيدة الآخرة واضحة لها راسخة في ضميرها .. فتصور الحياة على أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا ، وحدود هذه الأرض الصغيرة ، لا يمكن أن ينشىء أمة هذه صفتها وهذه وظيفتها!
إن العقيدة في الآخرة فسحة في التصور ، وسعة في النفس ، وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة .. كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها الصغيرة ومطامعها المحدودة ، ولفسحة مجال الحركة حتى لا تيئسها النتائج القريبة ولا تقعدها التضحيات الأليمة ، عن المضي في التبشير بالخير ، وفعل الخير والقيادة إلى الخير ، على الرغم من النتائج القريبة ، والتضحيات الأليمة .. وهي صفات ومشاعر ضرورية كذلك للنهوض بتلك الوظيفة الكبيرة ..
والاعتقاد في الآخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس «الإنسان» ، وضيق الرؤية واحتباسها في حدود الحس في إدراك «الحيوان»! وما يصلح إدراك الحيوان لقيادة البشرية ، والقيام بأمانة الله في الخلافة الراشدة!
لذلك كله كان التوكيد شديدا على عقيدة الآخرة في دين الله كله .. ثم بلغت صورة الآخرة في هذا الدين الأخير غايتها من السعة والعمق والوضوح ... حتى بات عالم الآخرة في حس الأمة المسلمة أثبت وأوضح وأعمق من عالم الدنيا الذي يعيشونه فعلا .. وبهذا صلحت هذه الأمة لقيادة البشرية ، تلك القيادة الراشدة التي وعاها التاريخ الإنساني (١)!
ونحن في هذا الموضع من سياق سورة الأعراف أمام صورة من صور الاستغراب والاستنكار الذي يواجه به المشركون عقيدة الآخرة ، تبدو في سؤالهم عن الساعة سؤال الساخر المستنكر المستهتر :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟)
إن الساعة غيب ، من الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، فلم يطلع عليه أحدا من خلقه .. ولكن المشركين
__________________
(١) يراجع ما جاء في الجزء السابع من هذه الظلال ص ١٠٦٨ ـ ١٠٧٣ كما يراجع كتاب : «مشاهد القيامة في القرآن». «دار الشروق».