وتارة يكون بالحال. كقوله : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) .. قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك. فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه. فإن قيل : إخبار الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد. ولهذا قال : (أَنْ تَقُولُوا) .. أي لئلا تقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا). أي التوحيد .. (غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) ... الآية).
أما الأحاديث التي أشار إليها في أول هذه الفقرة فهي :
في الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ. «كل مولود يولد على الفطرة ـ وفي رواية. «على هذه الملة» ـ فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، كما تولد بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟».
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ـ رحمهالله ـ حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى ، أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : غزوت مع رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فاشتد عليه ، ثم قال : «ما بال أقوام يتناولون الذرية؟». فقال رجل : يا رسول الله. أليسوا أبناء المشركين؟ فقال : «إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها» .. قال الحسن : لقد قال في كتابه : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ... الآية.
ونحن لا نستبعد أن يكون قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) .. الآيات) على وجهه لا على سبيل الحال. لأنه في تصورنا يقع كما أخبر عنه الله سبحانه. وليس هناك ما يمنع أن يقع حين يشاؤه .. ولكنا كذلك لا نستبعد هذا التأويل الذي اختاره ابن كثير ، وذكره الحسن البصري واستشهد له بالآية .. والله أعلم أي ذلك كان ..
وفي أي من الحالين يخلص لنا أن هناك عهدا من الله على فطرة البشر أن توحده. وأن حقيقة التوحيد مركوزة في هذه الفطرة ؛ يخرج بها كل مولود إلى الوجود ؛ فلا يميل عنها إلا أن يفسد فطرته عامل خارجي عنها! عامل يستغل الاستعداد البشري للهدى وللضلال. وهو استعداد كذلك كامن تخرجه إلى حيز الوجود ملابسات وظروف (١).
إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة «الإنسان» وحده ؛ ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله ـ وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله. موصولة به غير منقطعة عنه ، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه ـ بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة ..
__________________
(١) يراجع فصل : «حقيقة الإنسان» في كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق».