التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها ، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة! .. كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال! وصدق الله العظيم : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ..
أخرج ابن جرير وغيره ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال : «مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ... فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) .. وروي مرفوعا وموقوفا على ابن عباس. وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت ..
فأما كيف كان هذا المشهد؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم؟ وكيف خاطبهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكيف أجابوا : «بلى شهدنا»؟ .. فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله ـ سبحانه ـ غيب كذاته. ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله. إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية. وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ...) .. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) .. (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) .. (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .. (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) .. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) ... إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله. سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته .. إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا .. والله ليس كمثله شيء. فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله. إذ أنه. لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء .. وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته ـ سبحانه ـ عن ماهيات خلقه. وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه .. وكذلك جهل وضل كل من حاولوا ـ من الفلاسفة والمتكلمين ـ وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطا شديدا! (١)
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة .. فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده. أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها.
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ـ كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع ـ وقد فسر الحسن الآية بذلك. قالوا : ولهذا قال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) ولم يقل : من آدم .. (مِنْ ظُهُورِهِمْ) .. ولم يقل من ظهره .. (ذُرِّيَّتَهُمْ) أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) .. وقال : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) .. وقال : (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) .. ثم قال : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى!) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له .. حالا .. وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) .. وتارة تكون حالا كقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) .. أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك .. وكذلك قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) .. كما أن السؤال تارة يكون بالمقال
__________________
(١) يراجع فصل : «حقيقة الألوهية» في كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» القسم الثاني. «دار الشروق».