إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود ، واضح الأثر في شكل الكون ، وتنسيقه ، وتناسق أجزائه ، وانتظام حركته ، واطراد قوانينه ، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين .. وأخيرا ـ حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر ـ وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته ، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعا عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها ..
ويوما بعد يوم يكشف البشر أطرافا من ناموس الوحدة في طبيعة هذا الكون ، وطبيعة قوانينه التي تحكم تصرفاته ـ في غير آلية حتمية ولكن بقدر من الله مطرد متجدد وفق مشيئة الله الطليقة ـ ولكننا نحن لا نعتمد على هذا الذي يكشفه علم البشر الظني ـ الذي لا يمكن أن يكون يقينيا بحكم وسائله البشرية ـ في تقرير هذا الناموس. إنما نحن نستأنس به مجرد استئناس. واعتمادنا الأول في تقرير أية حقيقة كونية مطلقة ، على ما قرره لنا الخالق العليم بما خلق. والقرآن الكريم لا يدع مجالا للشك في أن الناموس الذي يحكم هذا الكون هو ناموس الوحدة ، الذي أنشأته المشيئة الواحدة للخالق الواحد سبحانه. كما أنه لا يدع مجالا للشك في عبودية هذا الكون لربه ، واعترافه بوحدانيته ، وعبادته له بالكيفية التي يعلمها الله ولا نعرف عنها إلا ما يخبرنا به ؛ وما نراه من آثارها في انتظامه ودأبه واطراده (١).
هذا الناموس الذي يصرف الكون كله ـ بقدر الله المطرد المتجدد وفق مشيئة الله الطليقة ـ سار كذلك في كيان الإنسان ـ بوصفه من كائنات هذا الكون ـ مستقر في فطرته ، لا يحتاج إلى وعي عقلي للإحساس به ؛ فهو مدرك بالفطرة ، مستقر في صميمها ، تستشعره بذاتها ، وتتصرف وفقه ، ما لم يطرأ عليها الخلل والفساد ، فتنحرف عن إدراكها الذاتي له ، وتدع للأهواء العارضة أن تسيرها ، بدلا من أن تسير وفق قانونها الداخلي القويم.
هذا الناموس ـ بذاته ـ هو ميثاق معقود بين الفطرة وخالقها. ميثاق مودع في كيانها. مودع في كل خلية حية منذ نشأتها. وهو ميثاق أقدم من الرسل والرسالات. وفيه تشهد كل خلية بربوبية الله الواحد ، ذي المشيئة الواحدة ، المنشئة للناموس الواحد الذي يحكمها ويصرفها. فلا سبيل إلى الاحتجاج بعد ميثاق الفطرة وشهادتها ـ سواء أكان بلسان الحال هذا أم بلسان المقال كما في بعض الآثار ـ لا سبيل إلى أن يقول أحد : إنه غفل عن كتاب الله الهادي إلى التوحيد ، وعن رسالات الله التي دعت إلى هذا التوحيد أو يقول : إنني خرجت إلى هذا الوجود ، فوجدت آبائي قد أشركوا فلم يكن أمامي سبيل لمعرفة التوحيد إنما ضل آبائي فضللت فهم المسئولون وحدهم ولست بالمسئول! ومن ثم جاء هذا التعقيب على تلك الشهادة :
(أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا : إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟).
ولكن الله ـ سبحانه ـ رحمة منه بعباده ، لما يعلمه من أن في استعدادهم أن يضلوا إذا أضلوا ، وأن فطرتهم هذه تتعرض لعوامل الانحراف ـ كما قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بفعل شياطين الجن والإنس ؛ الذين يعتمدون على ما في التكوين البشري من نقط الضعف! ..
رحمة من الله بعباده قدر ألا يحاسبهم على عهد الفطرة هذا ؛ كما أنه لا يحاسبهم على ما أعطاهم من عقل يميزون به ؛ حتى يرسل إليهم الرسل ، ويفصل لهم الآيات ، لاستنقاذ فطرتهم من الركام والتعطل والانحراف ،
__________________
(١) يراجع فصل : «حقيقة الكون» في المصدر السابق.