(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) .. بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه.
(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) .. وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة ، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون!
(وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق ؛ فأنا لم أضل ولم أكفر معهم ، وأنا بريء منهم!
عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان. وعندئذ يتوجه إلى ربه ، يطلب المغفرة له ولأخيه ، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين :
(قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ..
وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانه! ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى ، على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني :
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
إنه حكم ووعد .. إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا .. ذلك مع قيام القاعدة الدائمة : إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته .. وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة ؛ وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة .. وهكذا كان. فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة ؛ ويسامحهم الله المرة بعد المرة. حتى انتهوا إلى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة :
(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) ..
كل المفترين إلى يوم الدين .. فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله ، من بني إسرائيل ، ومن غير بني إسرائيل ..
ووعد الله صادق لا محالة. وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة. وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب. فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض ؛ ويستعلون بنفوذهم على الأمميين ـ أو كما يقولون عنهم في التلمود : «الجوييم»! ـ وأنهم يملكون سلطان المال ، وسلطان أجهزة الإعلام ؛ وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون ؛ وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية ؛ والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم ... إلى آخر ما نراه في هذا الزمان .. فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم ، ولا لما كتبه عليهم .. فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر ؛ ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب .. إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلا لأن الناس لم يعد لهم دين! ولم يعودوا مسلمين! .. إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية ؛ ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الإسلامية! وهم من ثم يخيبون ويفشلون ؛ وتأكلهم إسرائيل! غير أن هذه حال لن تدوم! إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد ، والمنهج الوحيد ، والراية الوحيدة ، التي غلبوا بها ألف عام ، والتي بها يغلبون ، وبغيرها يغلبون! إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة «الإسلامية»! والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض «الإسلامية» .. ولكن هذا كله لن يدوم .. ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة .. وسيفيء أخلاف المسلمين