بهذه النكسة ـ إلى موقف لا يملكون دفعه فقد وقع منهم وانتهى! قالوا قولتهم هذه :
(لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ..
وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم ـ إلى ذلك الحين ـ بقية من استعداد صالح. فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد ـ فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم! ـ فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته .. وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح ..
* * *
كل ذلك وموسى ـ عليهالسلام ـ بين يدي ربه ، في مناجاة وكلام ، لا يدري ما أحدث القوم بعده .. إلا أن ينبئه ربه .. وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر :
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً. قالَ : بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي! أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. قالَ : ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي. فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ ، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ..)
لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب. يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله .. يبدو في قوله لقومه :
(بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي! أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) ..
ويبدو في فعله إذ يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه.
(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ!) ..
وحق لموسى عليهالسلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية. والنقلة بعيدة :
(بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) ..
تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال ، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار!
(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) ..
أي استعجلتم قضاءه وعقابه! أو ربما كان يعني : استعجلتم موعده وميقاته!
(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) ..
وهي حركة تدل على شدة الانفعال .. فهذه الألواح هي التي كانت تحمل كلمات ربه. وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه. وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه. وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب!
فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة ، ليسكن من غضبه ، ويكشف له عن طبيعة موقفه ، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم :
(قالَ : ابْنَ أُمَّ ، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي!) ..
وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب ؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس :
«ابن أم» .. بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة.