عليه وسلم ـ وهذا القرآن يتنزل عليهم غضا ؛ وتشربه نفوسهم ؛ وتعيش به وله ؛ وتتعامل به وتتعايش بمدلولاته وإيحاءاته ومقتضياته ، في جد وفي وعي وفي التزام عجيب ، تأخذنا روعته وتبهرنا جديته ؛ وندرك منه كيف كان هذا الرهط الفريد من الناس ، وكيف صنع الله بهذا الرهط ما صنع من الخوارق ، في ربع قرن من الزمان :
روى ابن جرير ـ بإسناده ـ عن عبد الله بن إدريس ، قال : «لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ قال : فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «ليس كما تظنون. وإنما هو ما قال لقمان لابنه : (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ..
وروى كذلك ـ بإسناده ـ عن ابن المسيب ، أن عمر بن الخطاب قرأ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) فلما قرأها فزع. فأتى أبيّ بن كعب. فقال : يا أبا المنذر ، قرأت آية من كتاب الله. من يسلم؟ فقال : ما هي؟ .. فقرأها عليه .. فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال : غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)؟ إنما هو : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك.
وروى ـ بإسناده ـ عن أبي الأشعر العبدي عن أبيه ، أن زيد بن صوحان سأل سلمان ، فقال : يا أبا عبد الله ، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)! فقال سلمان : هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد : ما يسرني بها أني لم أسمعها منك ، وأن لي مثل كل شيء أمسيت أملكه.
فهذه الآثار الثلاثة تصور لنا كيف كان حس هذا الرهط الكريم بهذا القرآن الكريم. كيف كانت جدية وقعه في نفوسهم. كيف كانوا يتلقونه وهم يشعرون أنه أوامر مباشرة للتنفيذ وتقريرات حاسمة للطاعة ، وأحكام نهائية للنفاذ. وكيف كانوا يفزعون حين يظنون أن هناك مفارقة بين طاقتهم المحدودة ومستوى التكليف المطلوب. وكيف كانوا يجزعون أن يؤاخذوا بأي درجة من درجات التقصير ، والتفاوت بين عملهم وبين مستوى التكليف. حتى يأتيهم من الله ورسوله التيسير.
إنه مشهد كذلك رائع باهر .. مشهد هذه النفوس التي حملت هذا الدين .. وكانت ستارا لقدر الله ؛ ومنفذا لمشيئته في واقع الحياة ..
* * *
بعد ذلك يعرض السياق موكب الإيمان الجليل ، يقوده ذلك الرهط الكريم من الرسل : من نوح إلى إبراهيم إلى خاتم النبيين ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ يعرض السياق هذا الموكب ممتدا موصولا ـ وبخاصة منذ إبراهيم وبنيه من النبيين ـ ولا يراعي التسلسل التاريخي في هذا العرض ـ كما يلاحظ في مواضع أخرى ـ لأن المقصود هنا هو الموكب بجملته ، لا تسلسله التاريخي :
(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ـ كُلًّا هَدَيْنا ـ وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ـ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ .. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ .. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً .. وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ .. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ .. وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .. ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ، قُلْ : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) ..