(قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؟) ..
أتجادلونني في الله وقد وجدته يأخذ بيدي ، ويفتح بصيرتي ، ويهديني إليه ، ويعرفني به .. لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود ـ وهذا هو في نفسي دليل الوجود ـ لقد رأيته في ضميري وفي وعيي ، كما رأيته في الكون من حولي. فما جدالكم في أمر أنا أجده في نفسي ولا أطلب عليه الدليل. فهدايته لي إليه هي الدليل؟!
(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) ..
وكيف يخاف من وجد الله؟ وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟ وكل قوة ـ غير قوة الله ـ هزيلة وكل سلطان ـ غير سلطان الله ـ لا يخاف؟!
ولكن إبراهيم في عمق إيمانه ، واستسلام وجدانه ، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكبا إلى مشيئة الله الطليقة ، وإلى علم الله الشامل :
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً).
فهو يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته ؛ ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئا ، لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته. ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاءه الله ، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء ..
(وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ ، وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟).
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق هذا الوجود. إنه إن كان أحد قمينا بالخوف فليس هو إبراهيم ـ وليس هو المؤمن الذي يضع يده في يد الله ويمضي في الطريق ـ وكيف يخاف آلهة عاجزة ـ كائنة ما كانت هذه الآلهة ، والتي تتبدى أحيانا في صورة جبارين في الأرض بطاشين ؛ وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون! ـ كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة ، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله ما لم يجعل له سلطانا ولا قوة من الأشياء والأحياء؟ وأي الفريقين أحق بالأمن؟ الذي يؤمن به ويكفر بالشركاء؟ أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوة؟ أي الفريقين أحق بالأمن ، لو كان لهم شيء من العلم والفهم؟!
هنا يتنزل الجواب من الملأ الأعلى ؛ ويقضي الله بحكمه في هذه القضية :
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ..
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله ، لا يخلطون بهذا الإيمان شركا في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه. هؤلاء لهم الأمن ، وهؤلاء هم المهتدون ..
(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ، نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ..)
ولقد كانت هذه هي الحجة التي ألهمها الله إبراهيم ليدحض بها حجتهم التي جاءوا بها يجادلونه. ولقد كشف لهم عن وهن ما هم عليه من تصورهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه .. وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله ؛ ولا أنه هو صاحب القوة والسلطان في الكون ، ولكنهم كانوا يشركون به هذه الآلهة. فلما واجههم إبراهيم ، بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه ، فأما من يشرك بالله فهو أحق بالمخافة .. لما واجههم بهذه الحجة التي آتاها الله له وألهمه إياها ، سقطت حجتهم ، وعلت حجته ، وارتفع إبراهيم على قومه عقيدة وحجة ومنزلة .. وهكذا يرفع الله من يشاء درجات. متصرفا في هذا بحكمته وعلمه :
(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ..
وقبل أن نغادر هذه الفقرة نحب أن نستمتع بنفحة من نفحات الحياة في عصر صحابة رسول الله ـ صلى الله