فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، فكان للنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ شأن آخر مع المشركين. وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. حيث لا يجترىء أحد على الخوض في آيات الله! ثم يكرر السياق المفاصلة بين المؤمنين والمشركين ، كما قررها من قبل بين الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبين المشركين. ويقرر اختلاف التبعة واختلاف المصير :
(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ..
فليست هنالك تبعة مشتركة بين المتقين والمشركين. فهما أمتان مختلفتان ـ وإن اتحدتا في الجنس والقوم فهذه لا وزن لها في ميزان الله ، ولا في اعتبار الإسلام .. إنما المتقون أمة ، والظالمون (أي المشركون) أمة ، وليس على المتقين شيء من تبعة الظالمين وحسابهم. ولكنهم إنما يقومون بتذكيرهم رجاء أن يتقوا مثلهم ، وينضموا إليهم .. وإلا فلا مشاركة في شيء ، إذا لم تكن مشاركة في عقيدة!
هذا دين الله وقوله .. ولمن شاء أن يقول غيره. ولكن ليعلم أنه يخرج من دين الله كله إذ يقول ما يقول! ويستمر السياق في تقرير هذه المفاصلة ؛ وفي بيان الحدود التي تكون فيها المعاملة :
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ ، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ، لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) ..
ونقف من الآية أمام عدة أمور :
أولها : أن الرسول صلىاللهعليهوسلم ـ وينسحب الأمر على كل مسلم ـ مأمور أن يهمل شأن الذين يتخذون دينهم لعبا ولهوا .. وهذا يتم بالقول كما يتم بالفعل .. فالذي لا يجعل لدينه وقاره واحترامه باتخاذه قاعدة حياته اعتقادا وعبادة ، وخلقا وسلوكا ، وشريعة وقانونا ، إنما يتخذ دينه لعبا ولهوا .. والذي يتحدث عن مبادئ هذا الدين وشرائعه فيصفها أوصافا تدعو إلى اللعب واللهو. كالذين يتحدثون عن «الغيب» ـ وهو أصل من أصول العقيدة ـ حديث الاستهزاء. والذين يتحدثون عن «الزكاة» وهي ركن من أركان الدين حديث الاستصغار. والذين يتحدثون عن الحياء والخلق والعفة ـ وهي من مبادئ هذا الدين ـ بوصفها من أخلاق المجتمعات الزراعية ، أو الإقطاعية ، أو «البرجوازية» الزائلة! والذين يتحدثون عن قواعد الحياة الزوجية المقررة في الإسلام حديث إنكار أو استنكار. والذين يصفون الضمانات التي جعلها الله للمرأة لتحفظ عفتها بأنها «أغلال!» .. وقبل كل شيء وبعد كل شيء .. الذين ينكرون حاكمية الله المطلقة في حياة الناس الواقعية : السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية .. ويقولون : إن للبشر أن يزاولوا هذا الاختصاص دون التقيد بشريعة الله ... أولئك جميعا من المعنيين في هذه الآيات بأنهم يتخذون دينهم لعبا ولهوا. وبأن المسلم مأمور بمفاصلتهم ومقاطعتهم إلا للذكرى. وبأنهم الظالمون ـ أي المشركون ـ والكافرون الذين أبسلوا بما كسبوا ، فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ..
وثانيها : أن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وينسحب الأمر على كل مسلم ـ مأمور بعد إهمال شأن هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا ـ أن يقوم بتذكيرهم وتخويفهم من أن ترتهن نفوسهم بما كسبوا ، وأن يلاقوا الله ليس لهم من دونه ولي ينصرهم ، ولا شفيع لهم ؛ كما أنه لا يقبل منهم فدية لتطلق نفوسهم بعد ارتهانها بما كسبت.
وللتعبير القرآني جماله وعمقه وهو يقول :