(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ـ وَهُوَ الْحَقُّ ـ قُلْ : لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ..
والخطاب لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعطيه ، ويعطي المؤمنين من ورائه ، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة. الثقة بالحق ـ ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب ـ فما هم بالحكم في هذا الأمر ، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه. وهو يقرر أنه الحق. وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم!
ثم يأمر الله تعالى نبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يبرأ من قومه ، وينفض منهم يده ، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة ، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ؛ وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ ، ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم ـ فليس هذا من شأن الرسول ـ ومتى أبلغهم ما معه من الحق ، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ؛ وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم. فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده. وعندئذ يعلمون ما سيكون!
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ..
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب ..
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ؛ الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح ، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم ، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر ؛ وكل حاضر إلى مصير.
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله ـ في مواجهة التكذيب من قومهم ، والجفوة من عشيرتهم ، والغربة في أهلهم ، والأذى والشدة والتعب واللأواء .. ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب!
* * *
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة .. فإنه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم ـ حتى للبلاغ والتذكير ـ إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ؛ ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ؛ ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ؛ بالقول أو بالفعل ؛ حتى لا تكون مجالسته لهم ـ وهم على مثل هذه الحال ـ موافقة ضمنية على ما هم فيه ؛ أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه. فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم ، ثم تذكر ، قام من فوره وفارق مجلسهم :
(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
ولقد كان هذا الأمر للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين .. كان هذا الأمر في مكة. حيث كان عمل الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقف عند حدود الدعوة. وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة. وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن .. فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في مجالس المشركين ؛ متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير ، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس ـ لو أنساه الشيطان ـ بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه. وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات .. والقوم الظالمون ، المقصود بهم هنا القوم المشركون. كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم ..