(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) ..
الظل نفسه ، في صورة أخرى .. فكل نفس معدودة الأنفاس ، متروكة لأجل لا تعلمه ـ فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه ـ بينما هو مرسوم محدد في علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر. وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر ، ولا يغفو ولا يغفل ولا يهمل ـ فهو حفيظ من الحفظة ـ وهو رسول من الملائكة ـ فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة ـ والنفس غافلة مشغولة ـ أدى الحفيظ مهمته ، وقام الرسول برسالته .. وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري ؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به ؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يقبض ، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم.
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) ..
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة .. مولاهم الذي أنشأهم ، والذي أطلقهم للحياة ما شاء .. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط .. ثم ردهم إليه عند ما شاء ؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب :
(أَلا لَهُ الْحُكْمُ ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ..
فهو وحده يحكم ، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطىء في الحكم ، ولا يمهل في الجزاء .. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري. فهو ليس متروكا ولو إلى مهلة في الحساب!
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب ، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم ـ في هذه الأرض ـ في أمر العباد ..
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة ، إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا ؛ ولا يحاسب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تعين لهم ما يحل وما يحرم ، مما يحاسبون يوم القيامة على أساسه ؛ وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس ..
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله ؛ فعلام يحاسبون في الآخرة؟ أيحاسبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها ؛ ويتحاكمون إليها؟ أم يحاسبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها ؛ ولا يتحاكمون إليها؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ، ويقيموا معاملاتهم ـ كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم ـ وفق شريعة الله في الدنيا ، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله. وأنهم يومئذ سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا الله ـ سبحانه ـ إلها في الأرض ؛ ولكنهم اتخذوا من دونه أربابا متفرقة. وأنهم محاسبون إذن على الكفر بألوهية الله ـ أو الشرك به باتباعهم شريعته في جانب العبادات والشعائر ، واتباعهم شريعة غيره في النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ، وفي المعاملات والارتباطات ـ والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..
* * *
ثم يحاكمهم إلى فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية ؛ وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة ؛ ويرسم لهم هذه الفطرة أمام الهول والكرب ؛ وكيف يخالفون عنها في اليسر والرخاء .. في مشهد قصير سريع ، ولكنه واضح حاسم ، وموح مؤثر.
إن الهول والكرب الذي ترتعد له الفرائص ليس مؤجلا دائما إلى يوم الحشر والحساب. فهم يصادفون