الهول في ظلمات البر والبحر. فلا يتوجهون عند الكرب إلا لله ؛ ولا ينجيهم من الكرب إلا الله .. ولكنهم يعودون إلى ما كانوا فيه من الشرك عند اليسر والرخاء :
(قُلْ : مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً : لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ : اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ..
إن تصور الخطر ، وتذكر الهول ، قد يردان النفوس الجامحة ، ويرققان القلوب الغليظة ، ويذكران النفس لحظات الضعف والإنابة ؛ كما يذكرانها رحمة الفرج ونعمة النجاة :
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً : لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) .. إنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة ، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق .. وظلمات البر والبحر كثيرة. وليس من الضروري أن يكون الليل لتتحقق الظلمات. فالمتاهة ظلام ، والخطر ظلام ، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب .. وحيثما وقع الناس في ظلمة من ظلمات البر والبحر لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين .. إن الفطرة تتعرى حينئذ من الركام ؛ فتواجه الحقيقة الكامنة في أعماقها .. حقيقة الألوهية الواحدة .. وتتجه إلى الله الحق بلا شريك ؛ لأنها تدرك حينئذ سخافة فكرة الشرك ، وتدرك انعدام الشريك! ويبذل المكروبون الوعود :
(لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ..
والله ـ سبحانه ـ يقول لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليذكرهم بحقيقة الأمر :
(قُلِ : اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ). فليس هنالك غيره يستجيب ، ويقدر على دفع الكروب .. ثم ليذكرهم بتصرفهم المنكر العجيب :
(ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) ..
* * *
وهنا يواجههم ببأس الله الذي قد يأخذهم بعد النجاة! فما هي مرة وتنتهي ، ثم يفلتون من القبضة كما يتصورون :
(قُلْ : هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) ..
وتصور العذاب الغامر من فوق ، أو النابع من تحت ، أشد وقعا في النفس من تصوره آتيا عن يمين أو شمال. فالوهم قد يخيل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال! أما العذاب الذي يصب عليه من فوق ، أو يأخذه من تحت ، فهو عذاب غامر قاهر مزلزل ، لا مقاومة له ولا ثبات معه! والتعبير الموحي يتضمن هذا المؤثر القوي في حس الإنسان ووهمه ، وهو يقرر حقيقة قدرة الله على أخذ العباد بالعذاب من حيث شاء وكيف شاء.
ويضيف إلى ألوان العذاب الداخلة في قدرة الله ؛ والتي قد يأخذ العباد بها متى شاء ؛ لونا آخر بطيئا طويلا ؛ لا ينهي أمرهم كله في لحظة ؛ ولكنه يصاحبهم ويساكنهم ويعايشهم بالليل والنهار :
(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) ..
وهي صورة من العذاب المقيم الطويل المديد ؛ الذي يذوقونه بأيديهم ، ويجرعونه لأنفسهم ؛ إذ يجعلهم