فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك ، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر .. وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات ؛ لا يند عن علم الله منهم شيء ، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار!
(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ..
أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم ؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله .. وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله. لا مهرب لهم منه ، ولا منتهى لهم سواه!
(ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) ..
فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح!
(ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..
فهو عرض السجل الذي وعى ما كان ، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء.
وهكذا تشمل الآية الواحدة ، ذات الكلمات المعدودة ، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد ، والمقررات والحقائق ، والإيحاءات والظلال .. فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك؟ وكيف تكون الآيات الخوارق ، إن لم تكن هي هذه؟ التي يغفل عنها المكذبون ، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم!
* * *
ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية .. لمسة القوة القاهرة فوق العباد. والرقابة الدائمة التي لا تغفل. والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر ، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب. والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل .. وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس :
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ، وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ، حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ، أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ..
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ..
فهو صاحب السلطان القاهر ؛ وهم تحت سيطرته وقهره. هم ضعاف في قبضة هذا السلطان ؛ لا قوة لهم ولا ناصر. هم عباد. والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون ..
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة .. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس ـ مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا ، ومن العلم ليعرفوا ، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة ـ إن كل نفس من أنفاسهم بقدر ؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه. وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة!
(وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ..
لا يذكر النص هنا ما نوعهم .. وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه .. أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس. ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة ، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة. فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة ؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء .. وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري ؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة ..