(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) ..
إن إيقاع العذاب بهم بعد مجيء الخارقة وتكذيبهم بها حكم وقضاء ؛ ولله وحده الحكم والقضاء. فهو وحده الذي يقص الحق ويخبر به ؛ وهو وحده الذي يفصل في الأمر بين الداعي إلى الحق والمكذبين به. وليس هذا أو ذلك لأحد من خلقه.
وبذلك يجرد الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ نفسه من أن تكون له قدرة ، أو تدخل في شأن القضاء الذي ينزله الله بعباده. فهذا من شأن الألوهية وحدها وخصائصها ، وهو بشر يوحى إليه ، ليبلغ وينذر ؛ لا لينزل قضاء ويفصل. وكما أن الله سبحانه هو الذي يقص الحق ويخبر به ؛ فهو كذلك الذي يقضي في الأمر ويفصل فيه .. وليس بعد هذا تنزيه وتجريد لذات الله ـ سبحانه ـ وخصائصه ، عن ذوات العبيد ..
ثم يؤمر أن يلمس قلوبهم وعقولهم ويلفتها إلى دلالة قوية على أن هذا الأمر من عند الله ، ومتروك لمشيئة الله. فلو أن أمر الخوارق ـ بما فيها إنزال العذاب ـ في مقدوره ـ وهو بشر ـ ما استطاع أن يمسك نفسه عن الاستجابة لهم ، وهم يلحفون هذا الإلحاف. ولكن لأن الأمر بيد الله وحده ، فهو يحلم عليهم ؛ فلا يجيئهم بخارقة يتبعها العذاب المدمر ، إن هم كذبوا بها كما فعل بمن قبلهم :
(قُلْ : لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) ..
إن للطاقة البشرية حدودا في الصبر والحلم والإمهال. وما يحلم على البشر ويمهلهم ـ على عصيانهم وتمردهم وتبجحهم ـ إلا الله الحليم القوي العظيم ..
وصدق الله العظيم .. فإن الإنسان ليرى من بعض الخلق ما يضيق به الصدر ، وتبلغ منه الروح الحلقوم .. ثم ينظر فيجد الله ـ سبحانه ـ يسعهم في ملكه ، ويطعمهم ، ويسقيهم ، ويغدق أحيانا عليهم ، ويفتح عليهم أبواب كل شيء .. وما يجد الإنسان إلا أن يقول قولة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ والمشركون يضربونه الضرب المبرح الغليظ ، حتى ما يعرف له أنف من عين : «رب ما أحلمك! رب ما أحلمك!» .. فإنما هو حلم الله وحده .. وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون!
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) ..
فهو يمهلهم عن علم ، ويملي لهم عن حكمة ، ويحلم عليهم وهو قادر على أن يجيبهم إلى ما يقترحون ، ثم ينزل بهم العذاب الأليم ..
* * *
وبمناسبة علم الله ـ سبحانه ـ بالظالمين ؛ واستطرادا في بيان حقيقة الألوهية ؛ يجلي هذه الحقيقة في مجال ضخم عميق من مجالاتها الفريدة .. مجال الغيب المكنون ، وعلم الله المحيط بهذا الغيب إحاطته بكل شيء ، ويرسم صورة فريدة لهذا العلم ؛ ويرسل سهاما بعيدة المدى تشير إلى آماده وآفاقه من بعيد :
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ ، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ..
إنها صورة لعلم الله الشامل المحيط ؛ الذي لا يند عنه شيء في الزمان ولا في المكان ، في الأرض ولا في السماء ، في البر ولا في البحر ، في جوف الأرض ولا في طباق الجو ، من حي وميت ويابس ورطب ... ولكن أين هذا الذي نقوله نحن ـ بأسلوبنا البشري المعهود ـ من ذلك النسق القرآني العجيب؟ وأين