يستوقف النظر. فكلمة الذين تطلق على العقلاء. ولو كان المقصود هي الأوثان ، والأصنام ، وما إليها لعبر ب «ما» بدل «الذين» .. فلا بد أن يكون المقصود بالذين نوعا آخر ـ مع الأصنام والأوثان وما إليها ـ نوعا من العقلاء الذين يعبر عنهم بالاسم الموصول : «الذين» فغلب العقلاء ، ووصف الجميع بوصف العقلاء .. وهذا الفهم يتفق مع الواقع من جهة ؛ ومع المصطلحات الإسلامية في هذا المقام من جهة :
فمن جهة الواقع نجد أن المشركين ما كانوا يشركون بالله الأصنام والأوثان وحدها. ولكن كانوا يشركون معه الجن والملائكة والناس .. وهم ما كانوا يشركون الناس إلا في أن يجعلوا لهم حق التشريع للمجتمع وللأفراد. حيث يسنون لهم السنن ، ويضعون لهم التقاليد ؛ ويحكمون بينهم في منازعاتهم وفق العرف والرأي ..
وهنا نصل إلى جهة المصطلحات الإسلامية .. فالإسلام يعتبر هذا شركا ؛ ويعتبر أن تحكيم الناس في أمور الناس تأليه لهم ؛ وجعلهم أندادا من دون الله .. وينهى الله عنه نهيه عن السجود للأصنام والأوثان ؛ فكلاهما في عرف الإسلام سواء .. شرك بالله ، ودعوة أنداد من دون الله!
ثم يجيء الإيقاع الثاني موصولا بالإيقاع الأول ومتمما له :
(قُلْ : إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ؛ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ، ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ، يَقُصُّ الْحَقَّ ، وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) ..
وهو أمر من الله ـ سبحانه ـ لنبيه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يجهر في مواجهة المشركين المكذبين بربهم ـ بما يجده في نفسه من اليقين الواضح الراسخ ، والدليل الداخلي البين ، والإحساس الوجداني العميق ، بربه .. ووجوده ، ووحدانيته ، ووحيه إليه. وهو الشعور الذي وجده الرسل من ربهم ، وعبروا عنه مثل هذا التعبير أو قريبا منه :
قالها نوح ـ عليهالسلام ـ : (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ؟ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟) ..
وقالها صالح ـ عليهالسلام ـ : (قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) ..
وقالها إبراهيم ـ عليهالسلام ـ : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؟) ..
وقالها يعقوب ـ عليهالسلام ـ لبنيه : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ : إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) ..
فهي حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب أوليائه ؛ ممن يتجلى الله لهم في قلوبهم ؛ فيجدونه ـ سبحانه ـ حاضرا فيها ؛ ويجدون هذه الحقيقة بينة هنالك في أعماقهم تسكب في قلوبهم اليقين بها. وهي الحقيقة التي يأمر الله نبيه أن يجهر بها في مواجهة المشركين المكذبين ؛ الذين يطلبون منه الخوارق لتصديق ما جاءهم به من حقيقة ربه ، الحقيقة التي يجدها هو كاملة واضحة عميقة في قلبه :
(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) ..
كذلك كانوا يطلبون أن ينزل عليهم خارقة أو ينزل بهم العذاب ، ليصدقوا أنه جاءهم من عند الله .. وكان يؤمر أن يعلن لهم حقيقة الرسالة وحقيقة الرسول ؛ وأن يفرق فرقانا كاملا بينها وبين حقيقة الألوهية ؛ وأن يجهر بأنه لا يملك هذا الذي يستعجلونه ؛ فالذي يملكه هو الله وحده ؛ وهو ليس إلها ، إنما هو رسول :