هذا التعبير الإحصائي المجرد ، من ذلك التصوير العميق الموحي؟
إن الخيال البشري لينطلق وراء النص القصير يرتاد آفاق المعلوم والمجهول ، وعالم الغيب وعالم الشهود ، وهو يتبع ظلال علم الله في أرجاء الكون الفسيح ، ووراء حدود هذا الكون المشهود .. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستقبل الصور والمشاهد من كل فج وواد. وهو يرتاد ـ أو يحاول أن يرتاد ـ أستار الغيوب المختومة في الماضي والحاضر والمستقبل ؛ البعيدة الآماد والآفاق والأغوار .. مفاتحها كلها عند الله ؛ لا يعلمها إلا هو .. ويجول في مجاهل البر وفي غيابات البحر ، المكشوفة كلها لعلم الله. ويتبع الأوراق الساقطة من أشجار الأرض ، لا يحصيها عد ، وعين الله على كل ورقة تسقط ، هنا وهنا وهناك. ويلحظ كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض لا تغيب عن عين الله. ويرقب كل رطب وكل يابس في هذا الكون العريض ، لا يند منه شيء عن علم الله المحيط ..
إنها جولة تدير الرؤوس ، وتذهل العقول. جولة في آماد من الزمان ، وآفاق من المكان ، وأغوار من المنظور والمحجوب ، والمعلوم والمجهول .. جولة بعيدة موغلة مترامية الأطراف ، يعيا بتصور آمادها الخيال .. وهي ترسم هكذا دقيقة كاملة شاملة في بضع كلمات ..
ألا إنه الإعجاز!
وننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز ، الناطق بمصدر هذا القرآن.
ننظر إليها من ناحية موضوعها ، فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر ؛ فليس عليه طابع البشر .. إن الفكر البشري ـ حين يتحدث عن مثل هذا الموضوع : موضوع شمول العلم وإحاطته ـ لا يرتاد هذه الآفاق .. إن مطارح الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود. إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته .. فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر ، في كل أنحاء الأرض؟ إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء. لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصي ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض. ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ؛ ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر البشري بكل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض؟ إن أقصى ما يحفل به بنو البشر هو الحب الذي يخبأونه هم في جوف الأرض ويرتقبون إنباته .. فأما تتبع كل حبة مخبوءة في ظلمات الأرض ؛ فمما لا يخطر للبشر على بال أن يهتموا به ، ولا أن يلحظوا وجوده ، ولا أن يعبروا به عن العلم الشامل! إنما الحب المخبوء في ظلمات الأرض شان يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق!
وما اهتمام الفكر بهذا الإطلاق : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) .. إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الانتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم .. فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل. فهذا ليس من المعهود في اتجاه البشر وتعبيراتهم كذلك! إنما كل رطب وكل يابس شأن يحصيه الخالق ، ويعبر عنه الخالق!
ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ .. فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم؟ وما احتفالهم بتسجيله؟ إنما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك ، الذي لا يند عنه شيء في ملكه .. الصغير كالكبير ؛ والحقير كالجليل ؛ والمخبوء كالظاهر ؛ والمجهول كالمعلوم ؛ والبعيد كالقريب ..
إن هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع .. مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعا ، والحب المخبوء