فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ..) حتى بلغ : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ).
وفي رواية أخرى أن قريشا قالت : لئن صبأ الوليد لتصبون قريش كلها! فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه! ثم دخل عليه .. وأنه قال ـ بعد التفكير الطويل ـ إنه سحر يؤثر. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله وولده ومواليه.
فهذه الروايات كلها تبين أن هؤلاء المكذبين لم يكونوا يعتقدون أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يكذبهم فيما يبلغه لهم. وإنما هم كانوا مصرين على شركهم لمثل هذه الأسباب التي وردت بها الروايات ، وما وراءها من السبب الرئيسي ، وهو ما يتوقعونه من وراء هذه الدعوة من سلب السلطان المغتصب ، الذي يزاولونه ، وهو سلطان الله وحده. كما هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله التي يقوم عليها الإسلام. وهم كانوا يعرفون جيدا مدلولات لغتهم ؛ وكانوا لا يريدون أن يسلموا بمدلول هذه الشهادة. وهو إنما يمثل ثورة كاملة على كل سلطان غير سلطان الله في حياة العباد .. وصدق الله العظيم :
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) ..
والظالمون في هذا الموضع هم المشركون. كما يغلب في التعبير القرآني الكريم.
ويستطرد من تطييب خاطر الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته ، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به .. يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله ـ وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن ـ ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق ، حتى جاءهم نصر الله. ليقرر أن هذه هي سنة الدعوات التي لا تتبدل ، ولا يغير منها اقتراحات المقترحين ، كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق :
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ..
إن موكب الدعوة إلى الله موغل في القدم ، ضارب في شعاب الزمن ، ماض في الطريق اللاحب ، ماض في الخط الواصب .. مستقيم الخطى ، ثابت الأقدام. يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، ويقاومه التابعون من الضالين والمتبوعون ، ويصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء .. والموكب في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا ينكص ولا يحيد .. والعاقبة هي العاقبة ، مهما طال الزمن ومهما طال الطريق .. إن نصر الله دائما في نهاية الطريق :
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ، وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ..
كلمات يقولها الله ـ سبحانه ـ لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ .. كلمات للذكرى ، وللتسرية وللمواساة ، والتأسية .. وهي ترسم للدعاة إلى الله من بعد رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ طريقهم واضحا ، ودورهم محددا ، كما ترسم لهم متاعب الطريق وعقباته ، ثم ما ينتظرهم بعد ذلك كله في نهاية الطريق ...
إنها تعلمهم أن سنة الله في الدعوات واحدة. كما أنها كذلك وحدة. وحدة لا تتجزأ .. دعوة تتلقاها الكثرة بالتكذيب ، وتتلقى أصحابها بالأذى .. وصبر من الدعاة على التكذيب وصبر كذلك على الأذى .. وسنة تجري بالنصر في النهاية .. ولكنها تجيء في موعدها. لا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين المخلصين يتلقون الأذى والتكذيب ، ولا أن المجرمين الضالين والمضلين يقدرون على أذى المخلصين