الأبرياء الطيبين! ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد من ذاته ومن شهواته إنما يرغب في هداية قومه حبا في هدايتهم ، ويأسى على ما هم فيه من ضلال وشقوة ، وعلى ما ينتظرهم من دمار وعذاب في الدنيا والآخرة .. لا يعجلها عن موعدها شيء من ذلك كله. فإن الله لا يعجل لعجلة أحد من خلقه. ولا مبدل لكلماته. سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم ، أم تعلقت بالأجل المرسوم.
إنه الجد الصارم ، والحسم الجازم ، إلى جانب التطمين والتسرية والمواساة والتسلية ..
ثم يبلغ الجد الصارم مداه ، في مواجهة ما عساه يعتمل في نفس رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من الرغبة البشرية ، المشتاقة إلى هداية قومه ، المتطلعة إلى الاستجابة لما يطلبونه من آية لعلهم يهتدون. وهي الرغبة التي كانت تجيش في صدور بعض المسلمين في ذلك الحين ، والتي تشير إليها آيات أخرى في السورة آتية في السياق. وهي رغبة بشرية طبيعية. ولكن في صدد الحسم في طبيعة هذه الدعوة ومنهجها ودور الرسل فيها ، ودور الناس أجمعين ، تجيء تلك المواجهة الشديدة في القرآن الكريم :
(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ، أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ ، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ! وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ، ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ..
وإنه للهول الهائل ينسكب من خلال الكلمات الجليلة .. وما يملك الإنسان أن يدرك حقيقة هذا الأمر ، إلا حين يستحضر في كيانه كله : أن هذه الكلمات موجهة من رب العالمين إلى نبيه الكريم .. النبي الصابر من أولي العزم من الرسل .. الذي لقي ما لقي من قومه صابرا محتسبا ، لم يدع عليهم دعوة نوح ـ عليهالسلام ـ وقد لقي منهم سنوات طويلة ، ما يذهب بحلم الحليم! ...
تلك سنتنا ـ يا محمد ـ فإن كان قد كبر عليك إعراضهم ، وشق عليك تكذيبهم ، وكنت ترغب في إتيانهم بآية .. إذن .. فإن استطعت فابتغ لك نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، فأتهم بآية!
... إن هداهم لا يتوقف على أن تأتيهم بآية. فليس الذي ينقص هو الآية التي تدلهم على الحق فيما تقول .. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى : إما بتكوين فطرتهم من الأصل على أن لا تعرف سوى الهدى ـ كالملائكة ـ وإما بتوجيه قلوبهم وجعلها قادرة على استقبال هذا الهدى والاستجابة إليه. وإما بإظهار خارقة تلوي أعناقهم جميعا. وإما بغير هذه من الوسائل وكلها يقدر الله عليها.
ولكنه سبحانه ـ لحكمته العليا الشاملة في الوجود كله ـ خلق هذا الخلق المسمى بالإنسان ، لوظيفة معينة ، تقتضي ـ في تدبيره العلوي الشامل ـ أن تكون له استعدادات معينة غير استعدادات الملائكة. من بينها التنوع في الاستعدادات ، والتنوع في استقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان ، والتنوع في الاستجابة لهذه الدلائل والموحيات. في حدود من القدرة على الاتجاه ، بالقدر الذي يكون عدلا معه تنوع الجزاء على الهدى والضلال ..
لذلك لم يجمعهم الله على الهدى بأمر تكويني من عنده ، ولكنه أمرهم بالهدى وترك لهم اختيار الطاعة أو المعصية ، وتلقي الجزاء العادل في نهاية المطاف .. فاعلم ذلك ولا تكن ممن يجهلونه.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ).
يا لهول الكلمة! ويا لحسم التوجيه! ولكنه المقام الذي يقتضي هول الكلمة وحسم التوجيه ..
وبعد ذلك بيان للفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولمواقفهم المختلفة في مواجهة الهدى ، الذي لا تنقصه البينة ولا ينقصه الدليل :