بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي .. خلوا بين الرجل وما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به .. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال : هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم!
وقد روى البغوي في تفسيره حديثا ـ بإسناده (١) ـ عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مضى في قراءته إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) .. فأمسك عتبة على فيه ، وناشده الرحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم ... إلى آخره ... ثم لما حدثوه في هذا قال : فأمسكت بفيه ، وناشدته الرحم أن يكف. وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب ..
وقال ابن إسحاق : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ـ وكان ذا سن فيهم ـ وقد حضر الموسم. فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل ، وأقم لنا رأيا نقل به. قال : بل أنتم فقولوا : أسمع. قالوا : نقول : كاهن! قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه! قالوا : فنقول : مجنون! قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته! قالوا : فنقول : شاعر! قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر! قالوا : فنقول : ساحر! قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم! قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل! وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته .. فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس ـ حين قدموا الموسم ـ لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا له أمره!
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثورة ، عن معمر ، عن عبادة بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له. فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام. فأتاه فقال له : أي عم! إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا! قال : لم؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله! (يريد الخبيث أن يثير كبرياءه من الناحية التي يعرف أنه أشد بها اعتزازا!) قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا! قال : فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له! قال : فما ذا أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن! والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا. والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى. قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه .. قال : فدعني حتى أفكر فيه .. فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر. يؤثره عن غيره.
__________________
(١) في إسناده عبد الله الكندي الكوفي قال عنه ابن كثير (وقد ضعف بعض الشيء)