فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟» ... (أخرجه الشيخان).
وهكذا علم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أصحابه هدى القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة .. أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشىء فى حسه وفي حياته وفي خلقه آثارا عميقة ؛ يصعب كذلك تقصيها ؛ ولا بد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها ، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية ، إلى قضية مستقلة!
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه ـ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء ، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار ـ فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة ، وكل حالة ، وكل وضع ؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه ، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحدا يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها! وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر ، وبالرجاء والأمل ، وبالهدوء والراحة .. فهو في كنف ودود ، يستروح ظلاله ، ما دام لا يبعد عنه في الشرود!
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّىء على المعصية ـ كما يتوهم البعض ـ إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقة! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم ، أو المغفرة ، أو الرحمة .. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرا قويا في خلق المؤمن ، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله ـ سبحانه ـ وهو يرى نفسه مغمورا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه ـ فيعلمه ذلك كله كيف يرحم ، وكيف يعفو ، وكيف يغفر .. كما رأينا في تعليم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأصحابه ؛ مستمدا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة ..
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة : أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة :
(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّهِ. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ..) ..
فمن هذه الرحمة المكتوبة ، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه .. ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله ـ سبحانه ـ بعباده من الناس ؛ فقد خلقهم لأمر ؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية ، ولم يخلقهم عبثا ، ولم يتركهم سدى. ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة ـ فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته ـ فيعطيهم جزاء كدحهم إليه ، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا. فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر ؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة .. وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها .. كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها ، والحسنة بعشرة أمثالها ، والإضعاف لمن يشاء ، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء .. كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضا.
ولقد كان العرب في جاهليتهم ـ قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم ـ يكذبون