بيوم القيامة ـ شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية «العلمية» الحديثة!!! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات ، لمواجهة ذلك التكذيب :
(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) ..
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا .. وهؤلاء لن يخسروا شيئا ويكسبوا شيئا .. هؤلاء خسروا كل شيء .. فقد خسروا أنفسهم كلها ، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئا. أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب؟ ولمن يكسب؟!.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ..
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها ؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن! .. وهو تعبير دقيق عن حالة واقعة .. إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين ـ مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموجبات الإيمان ودلائله ـ هؤلاء لا بد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم! لا بد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة ؛ أو محجوبة مغلفة. فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها ، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها ، ومن ثم فهم لا يؤمنون .. إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون .. وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم .. وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم. وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم!
بعد ذلك يمضي السياق يستقصي الخلائق في الزمان ـ كما استقصاها في الآية السابقة في المكان ـ ليقرر تفرد الله ـ سبحانه ـ بملكيتها ؛ وعلمه ـ سبحانه ـ وسمعه المحيطين بها :
(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
وأقرب تأويل لقوله : «ما سكن» أنه من السكنى ـ كما ذكر الزمخشري في الكشاف ـ وهو بهذا يعني كل ما اتخذ الليل والنهار سكنا ؛ فهو يعني جميع الخلائق ؛ ويقرر ملكيتها لله وحده. كما قرر من قبل ملكية الخلائق كلها له سبحانه. غير أنه في الآية الأولى : (قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّهِ) قد استقصى الخلائق من ناحية المكان. وفي هذه الآية الثانية : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) .. قد استقصى الخلائق من ناحية الزمان .. ومثله معروف في التعبير القرآني حين يتجه إلى الاستقصاء .. وهذا هو التأويل الذي نطمئن إليه في الآيتين من بين شتى التأويلات.
والتعقيب بصفتي السمع والعلم يفيد الإحاطة بهذه الخلائق ، وبكل ما يقال عنها كذلك من مقولات المشركين الذين يواجههم هذا النص .. ولقد كانوا مع إقرارهم بوحدانية الخالق المالك ، يجعلون لأربابهم المزعومة جزءا من الثمار ومن الأنعام ومن الأولاد ـ كما سيجيء في نهاية السورة ـ فهو يأخذ عليهم الإقرار هنا بملكية كل شيء ؛ ليواجههم بها فيما يجعلونه للشركاء بغير إذن من الله. كما أنه يمهد بتقرير هذه الملكية الخالصة لما سيلي في هذه الفقرة من ولاية لله وحده ، بما أنه هو المالك المتفرد بملكية كل شيء. في كل مكان وفي كل زمان ، الذي يحيط سمعه وعلمه بكل شيء ، وبكل ما يقال عن كل شيء كذلك!
* * *
والآن ، وقد تقرر أن الله وحده هو الخالق ، وأن الله وحده هو المالك .. يجيء الاستنكار العنيف للاستنصار بغير الله ، والعبودية لغير الله ، والولاء لغير الله. ويتقرر أن هذا مناقض لحقيقة الإسلام لله ، وأنه هو الشرك الذي لا يجتمع مع الإسلام. وتذكر من صفات الله سبحانه : أنه فاطر السماوات والأرض ، وأنه الرازق