من رزق الله بمعناه الواسع الشامل كذلك.
وتتجلى في رعاية الله لهذا الخلق بعد استخلافه في الأرض ، بموالاة إرسال الرسل إليه بالهدى ، كلما نسي وضل ؛ وأخذه بالحلم كلما لج في الضلال ؛ ولم يسمع صوت النذير ، ولم يصغ للتحذير. وهو على الله هين. ولكن رحمة الله وحدها هي التي تمهله ، وحلم الله وحده هو الذي يسعه.
وتتجلى في تجاوز الله ـ سبحانه ـ عن سيئاته إذا عمل السوء بجهالة ثم تاب ، وبكتابة الرحمة على نفسه ممثلة في المغفرة لمن أذنب ثم أناب.
وتتجلى في مجازاته عن السيئة بمثلها ، ومجازاته على الحسنة بعشر أمثالها. والمضاعفة بعد ذلك لمن يشاء. ومحو السيئة بالحسنة .. وكله من فضل الله. فلا يبلغ أحد أن يدخل الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته. حتى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كما قال عن نفسه ، في معرفة كاملة بعجز البشر وفضل الله.
والإقصار منا عن متابعة رحمة الله في مظاهرها ، وإعلان القصور والعيّ عنها ، هو أجدر وأولى. وإلا فما نحن ببالغين من ذلك شيئا! وإن لحظة واحدة يفتح الله فيها أبواب رحمته لقلب العبد المؤمن ؛ فيتصل به ؛ ويعرفه ؛ ويطمئن إليه ـ سبحانه ـ ويأمن في كنفه ؛ ويستروح في ظله .. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات لتعجز الطاقة البشرية عن تمليها واستجلائها ، فضلا على وصفها والتعبير عنها.
فلننظر كيف مثل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لهذه الرحمة بما يقرّبها للقلوب شيئا ما :
أخرج الشيخان ـ بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال : «قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لما قضى الله الخلق ـ وعند مسلم : لما خلق الله الخلق ـ كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي» .. وعند البخاري في رواية أخرى : «إن رحمتي غلبت غضبي» ..
وأخرج الشيخان ـ بإسناده عنه رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «جعل الله الرحمة مائة جزء. فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق ، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» ..
وأخرج مسلم ـ بإسناده عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ : «إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة يتراحم بها الخلق بينهم ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة» ..
وله في أخرى : «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة. كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض. فجعل منها في الأرض رحمة واحدة ، فيها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحش والطير بعضها على بعض. فإذا كان يوم القيامة أكملها الله تعالى بهذه الرحمة» ..
وهذا التمثيل النبوي الموحي ، يقرب للإدراك البشري تصور رحمة الله تعالى .. ذلك إذ ينظر إلى رحمة الأمهات بأطفالها في الخلائق الحية ويتملاها ويعجب لها ، وإلى رحمة القلوب البشرية بالطفولة والشيخوخة ، والضعف والمرض ؛ وبالأقرباء والأوداء والأصحاب ؛ وبرحمة الطير والوحش بعضها على بعض ـ ومنها ما يدعو إلى الدهش والعجب ـ ثم يرى أن هذا كله من فيض رحمة واحدة من رحمات الله سبحانه .. فهذا مما يقرب إلى إدراكه تصور هذه الرحمة الكبرى شيئا ما!
وكان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يني يعلم أصحابه ويذكرهم بهذه الرحمة الكبرى :
عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قدم على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بسبي. فإذا