على أن تلمس مواضع رحمة الله ومظاهرها يستغرق الأعمار والأجيال. فما من لحظة إلا وتغمر العباد فيها الرحمة .. إنما ذكرنا الرحمة في الابتلاء بالضراء ، لأن هذه هي التي قد تزيغ فيها القلوب والأبصار!
ولن نحاول نحن أن نتقصى مواضع الرحمة الإلهية أو مظاهرها ـ وإن كنا سنشير إشارة مجملة إلى شيء من ذلك فيما يلي ـ ولكننا سنحاول أن نقف قليلا أمام هذا النص القرآني العجيب :
(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).
وقد تكرر وروده في السورة في موضع آخر سيأتي : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ..
إن الذي يستوقف النظر في هذا النص هو ذلك التفضل الذي أشرنا من قبل إليه .. تفضل الخالق المالك ذي السلطان القاهر فوق عباده .. تفضله ـ سبحانه ـ بأن يجعل رحمته بعباده في هذه الصورة .. مكتوبة عليه .. كتبها هو على نفسه ؛ وجعلها عهدا منه لعباده .. بمحض إرادته ومطلق مشيئته .. وهي حقيقة هائلة لا يثبت الكيان البشري لتمليها وتأملها وتذوق وقعها ؛ حين يقف لتدبرها في هذه الصورة العجيبة ..
كذلك يستوقف النظر مرة أخرى ذلك التفضل الآخر الذي يتجلى في إخباره لعباده بما كتبه ـ سبحانه ـ على نفسه من رحمته. فإن العناية بإبلاغهم هذه الحقيقة هي تفضل آخر ، لا يقل عن ذلك التفضل الأول! فمن هم العباد حتى تبلغ العناية بهم أن يبلغوا ما جرت به إرادة الله في الملأ الأعلى؟ وأن يبلغوا بكلمات منه سبحانه يحملها إليهم رسوله؟ من هم؟ إلا أنه الفضل العميم ، الفائض من خلق الله الكريم؟!
إن تدبر هذه الحقيقة على هذا النحو ليدع القلب في عجب وفي دهش ؛ كما يدعه في أنس وفي روح لا تبلغ الكلمات أن تصور جوانبه وحواشيه!
ومثل هذه الحقائق ، وما تثيره في القلب من مشاعر ؛ ليس موكولا إلى التعبير البشري ليبلغ شيئا في تصويره ؛ وإن كان القلب البشري مهيا لتذوقه ، لا لتعريفه!
وتمثل هذه الحقيقة في التصور الإسلامي يكوّن جانبا أساسيا من تصور حقيقة الألوهية ، وعلاقة العباد بها .. وهو تصوّر جميل مطمئن ودود لطيف. يعجب الإنسان معه لمناكيد الخلق الذين يتقولون على التصور الإسلامي في هذا الجانب ، لأنه لا يقول ببنوة أحد من عباد الله لله! ـ على نحو ما تقول التصورات الكنسية المحرفة ـ فالتصور الإسلامي إذ يرتفع على هذه التصورات الصبيانية الطفولية ، يبلغ في الوقت ذاته من تصوير العلاقة الرحيمة بين الله وعباده هذا المستوي الذي يعجز التعبير البشري عن وصفه. والذي يترع القلب بحلاوة مذاقه ، كما يروعه بجلال إيقاعه ..
ورحمة الله تفيض على عباده جميعا ؛ وتسعهم جميعا ؛ وبها يقوم وجودهم ، وتقوم حياتهم. وهي تتجلى في كل لحظة من لحظات الوجود أو لحظات الحياة للكائنات. فأما في حياة البشر خاصة فلا نملك أن نتابعها في كل مواضعها ومظاهرها ؛ ولكننا نذكر منها لمحات في مجاليها الكبيرة :
إنها تتجلى ابتداء في وجود البشر ذاته. في نشأتهم من حيث لا يعلمون. وفي إعطائهم هذا الوجود الإنساني الكريم ؛ بكل ما فيه من خصائص يتفضل بها الإنسان على كثير من العالمين.
وتتجلى في تسخير ما قدر الله أن يسخره للإنسان ، من قوى الكون وطاقاته. وهذا هو الرزق في مضمونه الواسع الشامل. الذي يتقلب الإنسان في بحبوحة منه في كل لحظة من لحظات حياته.
وتتجلى في تعليم الله للإنسان ، بإعطائه ابتداء الاستعداد للمعرفة ؛ وتقدير التوافق بين استعداداته هذه وإيحاءات الكون ومعطياته .. هذا العلم الذي يتطاول به بعض المناكيد على الله ، وهو الذي علمهم إياه! وهو