وعرض الحكمة والخبرة .. ثم الإيقاع الرهيب المزلزل ، المتمثل في الأمر العلوي الهائل : قل. قل. قل : فإذا تم هذا العرض بكل مؤثراته العميقة ، جاء الختام بالإيقاع العالي المجلجل .. إيقاع الإشهاد على التوحيد ، وإنكار الشرك ، والمفاصلة الحاسمة ؛ مصحوبا كذلك بالأمر العلوي في كل فاصلة : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً؟) .. (قُلِ : اللهُ) .. (قُلْ : لا أَشْهَدُ) .. (قُلْ : إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) .. مما يضفي على الجو كله رهبة غامرة ؛ ويضفي على الأمر كله طابع جد مرهوب!
* * *
(قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ لِلَّهِ ، كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ..
إنه موقف المواجهة للبيان والتقرير ، ثم المفاصلة .. ومن ثم يبدأ بتوجيه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لهذه المواجهة. مواجهة المشركين ـ الذين يعرفون أن الله هو الخالق ثم يعدلون به من لا يخلق ؛ فيجعلون له شركاء مع الله في تصريف حياتهم ـ مواجهتهم بالسؤال عن الملكية ـ بعد الخلق ـ لكل ما في السماوات والأرض ، مستقصيا بهذا السؤال حدود الملكية في المكان :
(ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. مع تقرير الحقيقة التي لم يكونوا هم يجادلون فيها ؛ والتي حكى القرآن في مواضع أخرى إقرارهم الكامل بها :
(قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّهِ) ..
ولقد كان العرب في جاهليتهم ـ على كل ما في هذه الجاهلية من ضلال في التصور ينشأ عنه انحطاط في الحياة ـ أرقى ـ في هذا الجانب ـ من الجاهلية «العلمية» الحديثة ، التي لا تعرف هذه الحقيقة ، والتي تغلق فطرتها وتعطلها دون رؤية هذه الحقيقة! كانوا يعرفون ويقررون أن لله ما في السماوات والأرض. ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه الحقيقة نتائجها المنطقية ؛ بإفراد الله سبحانه بالحاكمية فيما يملك ، وعدم التصرف فيه إلا بإذن الله وحده وشرعه .. وبهذا اعتبروا مشركين ، وسميت حياتهم بالجاهلية! فكيف بمن يخرجون الحاكمية في أمرهم كله من اختصاص الله سبحانه ؛ ويزاولونها هم بأنفسهم؟! بما ذا يوصفون وبما ذا توصف حياتهم؟ لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك .. فهو الكفر والظلم والفسق كما يقرر الله سبحانه .. أيا كانت دعواهم في الإسلام وأيا كانت الصفة التي تعطيها لهم شهادات الميلاد!
ونعود إلى الآية. لنجد السياق يلحق بهذا التقرير لملكية الله ـ سبحانه ـ لما في السماوات وما في الأرض ، أنه ـ سبحانه :
(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ..
فهو سبحانه المالك ، لا ينازعه منازع ، ولكنه ـ فضلا منه ومنة ـ كتب على نفسه الرحمة. كتبها بإرادته ومشيئته ؛ لا يوجبها عليه موجب ؛ ولا يقترحها عليه مقترح ؛ ولا يقتضيها منه مقتض ـ إلا إرادته الطليقة وإلا ربوبيته الكريمة ـ وهي ـ الرحمة ـ قاعدة قضائه في خلقه ، وقاعدة معاملته لهم في الدنيا والآخرة .. والاعتقاد إذن بهذه القاعدة يدخل في مقوّمات التصور الإسلامي ، فرحمة الله بعباده هي الأصل ، حتى في ابتلائه لهم أحيانا بالضراء. فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته ، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء ؛ وليميز الخبيث من الطيب في الصف ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ؛ وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة .. والرحمة في هذا كله ظاهرة ..