ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة .. (١)
* * *
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد ، التي ينبعث منها ذلك الإعراض ؛ فيرسم نموذجا عجيبا من النفوس البشرية .. ولكنه نموذج مع ذلك مكرور ، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل .. نموذج النفس المكابرة ، التي يخرق الحق عينها ولا تراه! والتي تنكر ما لا ينكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره! على الأقل من باب الحياء! .. والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصا في كلمات قلائل ، على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير (٢) :
(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ..
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن آيات الله ، أن البرهان على صدقها ضعيف ، أو غامض ، أو تختلف فيه العقول. إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق! وهو الإصرار مبدئيا على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلا! ولو أن الله ـ سبحانه ـ نزل على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذا القرآن ، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه ؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة ؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم ـ لا سماعا عن غيرهم ، ولا مجرد رؤية بعيونهم ـ ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه ، ولقالوا جازمين مؤكدين :
(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
وهي صورة صفيقة ، منكرة ، تثير الاشمئزاز ، وتستعدي من يراها عليها! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل!
وتصويرها على هذا النحو ـ وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة ـ يؤدي غرضين أو عدة أغراض : إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض ؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة ، ليرى نفسه في هذه المرآة ، ويخجل منها!
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين ؛ ويثبت قلوبهم على الحق ، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء.
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين ، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق.
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين.
بعد ذلك يحكي نموذجا من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور .. ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله ـ سبحانه ـ على الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ملكا يصاحبه في تبليغ الدعوة ؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله .. ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :
__________________
(١) يراجع بتوسع كتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».
(٢) يراجع في «كتاب التصوير الفني في القرآن» فصل : «التصوير الفني» وفصل : «طريقة القرآن» وفصل : «نماذج بشرية». «دار الشروق».