بعضهم بعضا ، ويدمر بعضهم بعضا ، ويؤذي بعضهم بعضا ، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا ؛ فتضعف شوكتهم في النهاية ؛ ويسلط الله عليهم عبادا له ـ طائعين أو عصاة ـ يخضدون شوكتهم ، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه ؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم .. وهكذا تمضي دورة السنة .. السعيد من وعى أنها السنة ، ومن وعى أنه الابتلاء ؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه. والشقي من غفل عن هذه الحقيقة ، وظن أنه أوتيها بعلمه ، أو أوتيها بحيلته ، أو أوتيها جزافا بلا تدبير!
وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكنا له في الأرض ، غير مأخوذ من الله .. ولكن الناس إنما يستعجلون .. إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ؛ ولا يرون نهاية الطريق .. ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث .. والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون ـ في حياتهم الفردية القصيرة ـ نهاية الطريق ؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق!
إن هذا النص في القرآن : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) .. وما يماثله ، وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم .. إنما يقرر حقيقة ، ويقرر سنة ، ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ ..
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها ، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ؛ وأن هذه سنة ماضية ـ ولو لم يرها فرد في عمره القصير ، أو جيل في أجله المحدود ـ ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب .. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال ؛ من عوامله ، فعل الذنوب في جسم الأمم ؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار ؛ إما بقارعة من الله عاجلة ـ كما كان يحدث في التاريخ القديم ـ وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي ، الذي يسري في كيان الأمم ـ مع الزمن ـ وهي توغل في متاهة الذنوب!
وأمامنا في التاريخ القريب ـ نسيبا ـ الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم .. أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان ـ وقد أصبحوا أحاديث ـ وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله ، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك ـ على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض (١).
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة ، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها .. ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلّا على أساس القاعدة الاعتقادية.
والتفسير الإسلامي ـ بشموله وجديته وصدقه وواقعيته ـ لا يغفل أثر العناصر المادية ـ التي يجعلها التفسير المادي هي كل شيء ـ ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة ؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلّا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود .. يبرز قدر الله من وراء كل شيء ؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات ؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي ..
__________________
(١) يراجع فصل : «تخبط واضطراب» في كتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة» وفصل «شهادة التاريخ» وفصل «شهادة القرن العشرين» في كتاب : «التطور والثبات في حياة البشرية». «دار الشروق».