(وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ! وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ..
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه ؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم ـ كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم ـ والرد القرآني عليه في هذا الموضع .. هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :
الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ؛ ولكنهم كانوا يريدون برهانا على أن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مرسل من عنده ؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم منزل من عند الله حقا. ويقترحون برهانا معينا : هو أن ينزل الله عليه ملكا يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه .. ولم يكن هذا إلا اقتراحا من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى. وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً. وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ. قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي! هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً؟ وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا : أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً؟ قُلْ : لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) ... (الإسراء : ٨٩ ـ ٩٥).
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة .. وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي يعرفونه جيدا بالخبرة الطويلة ؛ ما يدلهم على صدقه وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف ؛ وقد هاجر ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وترك ابن عمه عليا ـ رضي الله عنه ـ يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده ؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقنا كأمانته ؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا ـ حين أمره ربه بذلك ـ وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبإ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق .. فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق .. وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ. وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) .. فهي الرغبة في الإنكار والإعراض ؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق. وليس أنهم يشكون في صدقه صلىاللهعليهوسلم!
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون. فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله .. وهم لم يكونوا يجحدون الله .. وهم ـ على وجه التأكيد ـ كانوا يحسون ذلك ويعرفونه .. كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى ـ وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة. وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي