(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ..
وحين يكون الأمر كذلك. حين يكون الإعراض متعمدا ومقصودا ـ مع توافر الأدلة ، وتواتر الآيات ووضوح الحقائق ـ فإن التهديد بالبطش قد يحدث الهزة التي تفتح نوافذ الفطرة حين تسقط عنها حاجز الكبر والعناد :
(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
إنه الحق هذا الذي جاءهم من لدن خالق السماوات والأرض ، وجاعل الظلمات والنور ، وخالق الإنسان من طين ، والإله في السماوات والأرض الذي يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما يكسبون .. إنه الحق وقد كذبوا به ، مصرين على التكذيب ، معرضين عن الآيات ، مستهزئين بالدعوة إلى الإيمان .. فليرتقبوا إذن أن يأتيهم الخبر اليقين عما كانوا به يستهزئون! ويتركهم أمام هذا التهديد المجمل ، الذي لا يعرفون نوعه ولا موعده .. يتركهم يتوقعون في كل لحظة أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون!
حيث يتكشف لهم الحق أمام العذاب المرتقب المجهول!
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم ـ وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر ، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال ، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث ـ فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ، وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ..
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة. وقد مكنهم الله في الأرض ، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة ؛ وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق .. ثم ماذا؟ ثم عصوا ربهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ، ورث الأرض من بعدهم ؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض! فقد ورثها قوم آخرون! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر! ما أهونهم على الله ؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضا! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء ؛ إنما عمرها جيل آخر ؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان ؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء!
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض. ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ، ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه ، من العبودية له وحده ، والتلقي منه وحده ـ بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه ـ أم يجعلون من أنفسهم طواغيت ، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها ؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف.
إنها حقيقة ينساها البشر ـ إلا من عصم الله ـ وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف ؛ ويمضون على غير سنة الله ؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف ، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون .. حتى يستوفي الكتاب أجله ؛ ويحق وعد الله .. ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال ـ بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام ـ ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام ـ ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فيعذب