وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(١١)
هذه هي الموجة التالية في افتتاح السورة ؛ بعد الموجة الأولى ذات اللمسات العريضة .. الموجة التي غمرت الكون كله بحقيقة الوجود الإلهي متجلية في خلق السماوات والأرض ، منشئة للظلمات والنور ؛ ثم في خلق الإنسان من مادة هذه الأرض ؛ وتقدير أجله الذي ينتهي بالموت ؛ والاحتفاظ بسر الأجل الآخر المضروب للبعث ؛ والإحاطة بسر الناس وجهرهم ، وما يكسبون في السر والجهر ..
هذا الوجود الإلهي الذي يتجلى في الآفاق والأنفس ، هو وجود متفرد متوحد ؛ ليس مثله وجود ؛ لأنه ما من خالق غير الله ؛ كما أنه وجود غامر باهر قاهر يبدو التكذيب في ظله والإعراض عن هذه الآيات الهائلة ، منكرا قبيحا ، لا سند له ، ولا عذر لصاحبه ..
ومن ثم يعرض السياق موقف المشركين الذين يعارضون الدعوة الإسلامية في ظل هذا الوجود الغامر الباهر القاهر ؛ فيبدو هذا الموقف منكرا قبيحا ، حتى في حس أصحابه الذين يواجههم هذا القرآن بهذه الحقيقة! ويكسب القرآن المعركة في الجولة الأولى. يكسبها في أعماق فطرة الناس ، على الرغم من مكابرتهم ومن عنادهم الظاهرين!
وهو يعرض في هذه الموجة صورة العناد والمكابرة ؛ ويواجهها بالتهديد مرة ؛ وبتوجيه القلوب إلى مصارع المكذبين من قبل مرة ؛ ويحشد فيها عدة مؤثرات وموحيات. بعد الهزة الأولى التي مضت بها تلك الموجة العريضة :
* * *
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ، وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ..
إنهم يتخذون موقف الإعراض عنادا وإصرارا. فليس الذي ينقصهم هو الآيات الداعية إلى الإيمان ، ولا العلامات الدالة على صدق الدعوة والداعية ، ولا البراهين الناطقة بما وراء الدعوة والداعية من ألوهية حقة ، هي التي يدعون إلى الإيمان بها والاستسلام لها .. ليس هذا هو الذي ينقصهم ، إنما تنقصهم الرغبة في الاستجابة ، ويمسك بهم العناد والإصرار ، ويقعد بهم الإعراض عن النظر والتدبر :