كذلك نشأة هذه الحياة. والمسافة بينها وبين المادة ـ أيا كان مدلول المادة ولو كان هو الإشعاع ـ لا يمكن تعليلها إلا بتصور وجود إله خالق مدبر. يخلق الكون بحالة تسمح بنشأة الحياة فيه ؛ وتسمح بكفالة الحياة أيضا بعد وجودها. والحياة الإنسانية بخصائصها الباهرة درجة فوق مجرد الحياة .. وأصله من طين .. أي من مادة هذه الأرض وجنسها ؛ ولا بد من إرادة مدبرة تمنحه الحياة ، وتمنحه خصائص الإنسان عن قصد واختيار.
وكل المحاولات التي بذلها الملحدون لتعليل نشأة الحياة باءت بالفشل ـ عند العقل البشري ذاته ـ وآخر ما قرأته في هذا الباب محاولة (ديورانت) المتفلسف الأمريكي للتقريب بين نوع الحركة الذي في الذرة ـ وهو يسميه درجة من الحياة ـ ونوع الحياة المعروف في الأحياء. وذلك في جهد مستميت لملء الفجوة بين المادة الهامدة والحياة النابضة. بقصد الاستغناء عن الإله الذي ينشئ الحياة في الموات!
ولكن هذه المحاولة المستميتة لا تنفعه ولا تنفع الماديين في شيء .. ذلك أنه إن كانت الحياة صفة كامنة في المادة ، ولم يكن وراء هذه المادة قوة أخرى ذات إرادة ، فما الذي يجعل الحياة التي في المادة الكونية تتبدى في درجات بعضها أرقى وأعقد من بعض؟ فتتبدى في الذرة مجرد حركة آلية غير واعية. ثم تتبدى في النبات في صورة عضوية. ثم تتبدى في الأحياء المعروفة في صورة عضوية أكثر تركيبا وتعقيدا ..
ما الذي جعل المادة ـ المتضمنة للحياة كما يقال ـ يأخذ بعضها من عنصر الحياة أكثر مما يأخذ البعض الآخر ، بلا إرادة مدبرة؟ ما الذي جعل الحياة الكامنة في المادة ، تختلف في مدارجها المترقية؟!
إننا نفهم هذا التفاوت يوم نقدر أن هناك إرادة مدبرة هي التي تصنع ذلك مختارة مريدة. فأما حين تكون المادة (الحية ولنفرض ذلك!) هي وحدها ، فإنه يستحيل على العقل البشري ذاته أن يفهم هذا التفاوت أو يعلله!
إن التعليل الإسلامي لانبثاق الحياة في درجاتها المتفاوتة هو الحل الوحيد لهذه الظاهرة التي لا تعللها المحاولات المادية البائسة!
وإذ كنا ـ في هذه الظلال ـ لا نخرج عن المنهج القرآني ؛ فإننا لا نمضي أكثر من هذا في مواجهة لوثة الإلحاد ببراهين الخلق والتدبير والحياة .. فالقرآن الكريم لم يجعل قضية وجود الله قضيته. لعلم الله أن الفطرة ترفض هذه اللوثة. إنما القضية هي قضية توحيد الله ؛ وتقرير سلطانه في حياة العبد ؛ وهي القضية التي تتوخاها السورة في هذه الموجة التي استعرضناها.
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)