لم يستطيعوا إنكار وقوعها ـ وقد شهدتها الألوف ـ ولم يريدوا التسليم بدلالتها عنادا وكبرا .. حمايته منهم فلم يقتلوه ـ كما أرادوا ولم يصلبوه. بل توفاه الله ورفعه إليه .. كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله ؛ فإذا هم ملبون مستسلمون ، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله :
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي. قالُوا : آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ..
إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم ، لتكون له شهادة وبينة. فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ ؛ وتصوغ منها وحولها الأضاليل ـ فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى ، ومن الناس جميعا ، ومنهم قومه الغالون فيه .. ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا ؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين!
* * *
ويستطرد السياق في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه ، إلى شيء من نعمة الله على قومه ، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهدها وشهد بها الحواريون :
(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟ قالَ : اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ. قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا ، وَآيَةً مِنْكَ ، وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قالَ اللهُ : إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ..
ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى .. المستخلصين منهم وهم الحواريون .. فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فرق بعيد ..
إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى. فآمنوا. وأشهدوا عيسى على إسلامهم .. ومع هذا فهم بعد ما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا ، يطلبون خارقة جديدة. تطمئن بها نفوسهم. ويعلمون منها أنه صدقهم. ويشهدون بها له لمن وراءهم.
فأما أصحاب محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم .. لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان. ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان. ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن ..
هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليهالسلام ـ وحواريي محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ذلك مستوى ، وهذا مستوى .. وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون .. وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون .. ولكن تبقى المستويات متباعدة كما أرادها الله ..
وقصة المائدة ـ كما أوردها القرآن الكريم ـ لم ترد في كتب النصارى. ولم تذكر في هذه الأناجيل التي كتبت متأخرة بعد عيسى ـ عليهالسلام ـ بفترة طويلة ، لا يؤمن معها على الحقيقة التي تنزلت من عند الله. وهذه الأناجيل ليست إلا رواية بعض القديسين عن قصة عيسى ـ عليهالسلام ـ وليست هي ما أنزله الله عليه وسماه الإنجيل الذي آتاه ..
ولكن ورد في هذه الأناجيل خبر عن المائدة في صورة أخرى : فورد في إنجيل متى في نهاية الإصحاح الخامس عشر : «وأما يسوع فدعا تلاميذه ، وقال : إني أشفق على الجميع ، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون