برسلهم الذين كانوا يكذبونهم. ليعلن في موقف الإعلان ، أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءو هم من عند الله بدين الله ؛ وها هم أولاء مسؤولون بين يديه ـ سبحانه ـ عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبون.
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده ؛ وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم ، تأدبا وحياء ، ومعرفة بقدرهم في حضرة الله :
(قالُوا : لا عِلْمَ لَنا. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
* * *
فأما سائر الرسل ـ غير عيسى عليهالسلام ـ فقد صدق بهم من صدق ، وقد كفر بهم من كفر ؛ ولقد انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل ، الذي يدع العلم كله لله ، ويدع الأمر كله بين يديه. سبحانه .. فما يزيد السياق شيئا في هذا المشهد عنهم .. إنما يلتفت بالخطاب إلى عيسى بن مريم وحده ، لأن عيسى بن مريم هو الذي فتن قومه فيه ، وهو الذي غام الجو حوله بالشبهات ، وهو الذي خاض ناس في الأوهام والأساطير حول ذاته ، وحول صفاته ، وحول نشأته ومنتهاه.
يلتفت الخطاب إلى عيسى بن مريم ـ على الملأ ممن ألهوه وعبدوه وصاغوا حوله وحول أمه ـ مريم ـ التهاويل .. يلتفت إليه يذكره نعمة الله عليه وعلى والدته ؛ ويستعرض المعجزات التي آتاها الله إياه ليصدق الناس برسالته ، فكذبه من كذبه منهم أشد التكذيب وأقبحه ؛ وفتن به وبالآيات التي جاءت معه من فتن ؛ وألهوه مع الله من أجل هذه الآيات ، وهي كلها من صنع الله الذي خلقه وأرسله وأيده بالمعجزات :
(إِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ. إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً. وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي. وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي. وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ، قالُوا : آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ..
إنها المواجهة بما كان من نعم الله على عيسى بن مريم وأمه .. من تأييده بروح القدس في مهده ، وهو يكلم الناس في غير موعد الكلام ؛ يبرئ أمه من الشبهة التي أثارتها ولادته على غير مثال ؛ ثم وهو يكلمهم في الكهولة يدعوهم إلى الله .. وروح القدس جبريل ـ عليهالسلام ـ يؤيده هنا وهناك .. ومن تعليمه الكتاب والحكمة ؛ وقد جاء إلى هذه الأرض لا يعلم شيئا ، فعلمه الكتابة وعلمه كيف يحسن تصريف الأمور ، كما علّمه التوراة التي جاء فوجدها في بني إسرائيل ، والإنجيل الذي آتاه إياه مصدقا لما بين يديه من التوراة. ثم من إيتائه خارق المعجزات التي لا يقدر عليها بشر إلا بإذن الله. فإذا هو يصور من الطين كهيئة الطير بإذن الله ؛ فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ـ لا ندري كيف لأننا لا ندري إلى اليوم كيف خلق الله الحياة ، وكيف يبث الحياة في الأحياء ـ وإذا هو يبرىء المولود أعمى ـ بإذن الله ـ حيث لا يعرف الطب كيف يرد إليه البصر ـ ولكن الله الذي يهب البصر أصلا قادر على أن يفتح عينيه للنور ـ ويبرىء الأبرص بإذن الله ، لا بدواء ـ والدواء وسيلة لتحقيق إذن الله في الشفاء ، وصاحب الإذن قادر على تغيير الوسيلة ، وعلى تحقيق الغاية بلا وسيلة ـ وإذا هو يحيي الموتى بإذن الله ـ وواهب الحياة أول مرة قادر على رجعها حين يشاء ـ ثم يذكره بنعمة الله عليه في حمايته من بني إسرائيل إذ جاءهم بهذه البينات كلها فكذبوه وزعموا أن معجزاته هذه الخارقة سحر مبين! ذلك أنهم