معي ، وليس لهم ما يأكلون. ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق. فقال له تلاميذه : من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك. فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض ؛ وأخذ السبع خبزات والسمك ، وشكر وكسر ، وأعطى تلاميذه ، والتلاميذ أعطوا الجمع ، فأكل الجمع وشبعوا ، ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة ، والآكلون كانوا أربعة آلاف ، ما عدا النساء والأولاد» ... وورد مثل هذه الرواية في سائر الأناجيل ..
وبعض التابعين ـ رضوان الله عليهم ـ كمجاهد والحسن ـ يريان أن المائدة لم تنزل. لأن الحواريين حينما سمعوا قول الله سبحانه : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) .. خافوا وكفوا عن طلب نزولها :
قال ابن كثير في التفسير : «روى الليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : «هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء» (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير). ثم قال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ـ هو ابن سلام ـ حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم .. وقال أيضا ؛ حدثنا أبو المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ، أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل .. وحدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل».
ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت. لأن الله تعالى قال : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ). ووعد الله حق. وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دون سواه ..
إن الله ـ سبحانه ـ يذكر عيسى بن مريم ـ في مواجهة قومه يوم الحشر وعلى مشهد من العالمين ـ بفضله عليه :
(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟) ..
لقد كان الحواريون ـ وهم تلاميذ المسيح وأقرب أصحابه إليه وأعرفهم به ـ يعرفون أنه بشر .. ابن مريم .. وينادونه بما يعرفونه عنه حق المعرفة. وكانوا يعرفون أنه ليس ربا وإنما هو عبد مربوب لله. وأنه ليس ابن الله ، إنما هو ابن مريم ومن عبيد الله ؛ وكانوا يعرفون كذلك أن ربه هو الذي يصنع تلك المعجزات الخوارق على يديه ، وليس هو الذي يصنعها من عند نفسه بقدرته الخاصة .. لذلك حين طلبوا إليه ، أن تنزل عليهم مائدة من السماء ، لم يطلبوها منه ، فهم يعرفون أنه بذاته لا يقدر على هذه الخارقة. وإنما سألوه :
(يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟) ..
واختلفت التأويلات في قولهم : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) .. كيف سألوا بهذه الصيغة بعد إيمانهم بالله وإشهاد عيسى ـ عليهالسلام ـ على إسلامهم له. وقيل : إن معنى يستطيع ليس (يقدر) ولكن المقصود هو لازم الاستطاعة وهو أن ينزلها عليهم. وقيل : إن معناها : هل يستجيب لك إذا طلبت. وقرئت : «هل تستطيع ربك». بمعنى هل تملك أنت أن تدعو ربك لينزل علينا مائدة من السماء ..
وعلى أية حال فقد رد عليهم عيسى ـ عليهالسلام ـ محذرا إياهم من طلب هذه الخارقة .. لأن المؤمنين لا يطلبون الخوارق ، ولا يقترحون على الله.
(قالَ : اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ..