(وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)
فهذا الفسق هو شطر الباعث! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم .. وهي قاعدة نفسية واقعية ؛ تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة .. إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم .. إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه. إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه .. ومن ثم يكرهه وينقم عليه. يكره استقامته وينقم منه التزامه ؛ ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ؛ أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده!
إنها قاعدة مطردة ، تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة ، إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة. إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة .. والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار ، وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين ، وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين .. هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ..
ولقد علم الله ـ سبحانه ـ أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر ، وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل ، وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق ، وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين.
وعلم الله ـ سبحانه ـ أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف. وأنها معركة لا خيار فيها ، ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل. لأن الباطل سيهاجمه ، ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه ..
وغفلة ـ أي غفلة ـ أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ؛ وأنهم يملكون تجنب المعركة ؛ وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ؛ من أن يستسلموا للوهم والخديعة .. وهم يومئذ مأكولون مأكولون!
ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله ـ سبحانه ـ لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لمواجهة أهل الكتاب ، بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين .. فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم ، وشأن لهم مع ربهم ، وعقاب أليم :
(قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً ، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ!)
وهنا تطالعنا سحنة يهود ، وتاريخ يهود!
إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، وجعل منهم القردة والخنازير. إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت ..
وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ؛ وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير .. فأما قضية عبادتهم للطاغوت ، فتحتاج إلى بيان هنا ، لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة ..
إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله ، وكل حكم لا يقوم على شريعة الله ، وكل عدوان يتجاوز الحق .. والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا ، وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى ..