وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ؛ ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله. فسماهم الله عبادا لهم ؛ وسماهم مشركين .. وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق. فهم عبدوا الطاغوت .. أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها .. وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ، ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة. وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله (١).
والله ـ سبحانه ـ يوجه رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ ، وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ .. كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة .. يوجهه ليقول لهم : إن هذا شر عاقبة :
(قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ) ..
أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين ، وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم. وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه ، وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل :
(أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً ، وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ..
ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم ـ بعد عرض تاريخهم وجزائهم ـ ويجيء التحذير والتوعية منهم بكشف ما يبيتون .. ويبرز اليهود كذلك في الصورة ، لأن الحديث عن وقائع جارية ، ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود :
(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا : آمَنَّا. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ. وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ! لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ! وَقالَتِ الْيَهُودُ : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ .. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ؛ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ـ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ، وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ. وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً. وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ..
إنها عبارات تنشئ صورا متحركة ومشاهد حية ـ على طريقة التعبير القرآنية الفريدة (٢) ـ ومن وراء القرون يملك قارئ هذه الآيات أن يشهد ـ بعين التصور ـ هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود ـ على الأرجح ـ فالسياق يتحدث عنهم ، وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة .. يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون : آمنا .. ويشهد في جعبتهم «الكفر» وهم يدخلون به ويخرجون ؛ بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين!
ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض : آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون .. أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم.
(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) ..
__________________
(١) يراجع كتاب : «المصطلحات الأربعة» للسيد أبي الأعلى المودودي ، أمير الجماعة الإسلامية بباكستان .. فصل : «العبادة» .. ويراجع كتاب : «هذا الدين» فصل : «منهج متفرد» ويراجع كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» فصل : «التوحيد». «دار الشروق»
(٢) يراجع فصل : «طريقة القرآن» في كتاب : «التصوير الفني في القرآن». «دار الشروق».