الضمائر والسرائر ، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك. ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة.
فأما حين تتوزع السلطة ، وتتعدد مصادر التلقي .. حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع .. وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا .. حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين ، وبين اتجاهين مختلفين ، وبين منهجين مختلفين .. وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) .. (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) .. (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ..
من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة. وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى ، أو لأمة من الأمم ، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها ، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة ، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة ، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله .. وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله. حيثما جاء دين من عند الله. لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة (١).
وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى ، التي ربما جاءت لقرية من القرى ، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل ، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة .. وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى .. اليهودية ، والنصرانية ، والإسلام ..
ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة :
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) :
فالتوراة ـ كما أنزلها الله ـ كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل ، وإنارة طريقهم إلى الله. وطريقهم في الحياة .. وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى. وتحمل كذلك شريعة :
(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ).
أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونورا للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب. ولكن كذلك لتكون هدى ونورا بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في اطار هذا المنهج. ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله ؛ فليس لهم في أنفسهم شيء ؛ إنما هي كلها لله ؛ وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية ـ وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل ـ يحكمون بها للذين هادوا ـ فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه ـ كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار ؛ وهم قضاتهم وعلماؤهم. وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله ، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء ، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم ، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته ، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم.
وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة ، يلتفت إلى الجماعة المسلمة ، ليوجهها في شأن الحكم بكتاب
__________________
(١) يراجع بتوسع كتاب : «الإسلام ومشكلات الحضارة» وكتاب «المستقبل لهذا الدين» وكتاب «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته». «دار الشروق».