وما عندهم في التوراة ؛ مما جاء القرآن مصدقا له ومهيمنا عليه .. ثم من بعد ذلك يتولون ويعرضون. سواء كان التولي بعدم التزام الحكم ؛ أو بعدم الرضى به ..
ولا يكتفي السياق بالاستنكار. ولكنه يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف :
(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ..
فما يمكن أن يجتمع الإيمان ، وعدم تحكيم شريعة الله ، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة. والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم «مؤمنون» ثم هم لا يحكمون شريعة الله في حياتهم ، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم .. إنما يدعون دعوى كاذبة ؛ وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). فليس الأمر في هذا هو أمر عدم تحكيم شريعة الله من الحكام فحسب ؛ بل إنه كذلك عدم الرضى بحكم الله من المحكومين ، يخرجهم من دائرة الإيمان ، مهما ادعوه باللسان.
وهذا النص هنا يطابق النص الآخر ، في سورة النساء : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .. فكلاهما يتعلق بالمحكومين لا بالحكام. وكلاهما يخرج من الإيمان ، وينفي صفة الإيمان عمن لا يرضى بحكم الله ورسوله ، ومن يتولى عنه ويرفض قبوله.
ومرد الأمر كما قلنا في مطلع الحديث عن هذا الدرس .. أن القضية هي قضية الإقرار بألوهية الله ـ وحده ـ وربوبيته وقوامته على البشر. أو رفض هذا الإقرار. وأن قبول شريعة الله والرضى بحكمها هو مظهر الإقرار بألوهيته وربوبيته وقوامته ؛ ورفضها والتولي عنها هو مظهر رفض هذا الإقرار.
* * *
ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم .. فالآن يجيء حكمه ـ تعالى ـ على الحاكمين ، الذين لا يحكمون بما أنزل الله. الحكم الذي تتوافى جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه :
ويبدأ بالتوراة :
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ. يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ، لِلَّذِينَ هادُوا ، وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ؛ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ..
لقد جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة. منهج حياة واقعية. جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية ، وتنظيمها ، وتوجيهها ، وصيانتها. ولم يجئ دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ؛ ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب. فهذه وتلك ـ على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري ـ لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ؛ ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عمليا في حياة الناس ؛ ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ؛ ويؤاخذ الناس على مخالفتها ، ويؤخذون بالعقوبات.
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ؛ يملك السلطان على