ألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ؛ وعلى ما يختص بالنظام العام. فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم. ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم. وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقة لأنها واردة في كتابهم وهكذا. كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعا : مسلمين وغير مسلمين. فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام ..
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ؛ مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : «إن اليهود جاءوا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون. قال عبد الله بن سلام : كذبتم. إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم. فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم! فأمر بهما رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فرجما. فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة» .. (أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري)
ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال :
«أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا ، وفرقا منكم. فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم! فكادت الحرب تهيج بينهما. ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حكما بينهم. ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه .. إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه! فدسوا إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما جاءوا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أخبر الله رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بأمرهم كله وما أرادوا. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، إلى قوله : «الفاسقون» .. ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عزوجل .. (أخرجه أبو داود من حديث أبي الزناد عن أبيه) .. وفي رواية لابن جرير عين فيها «العزيزة» وهي بنو النضير «والذليلة» وهي بنو قريظة .. مما يدل ـ كما قلنا ـ على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم ..
وقد عقب السياق بسؤال استنكاري على موقف يهود ـ سواء كان في هذه القضية أو تلك فهو موقف عام منهم وتصرف مطرد ـ فقال :
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ ـ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ـ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؟) ..
فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فيحكم بشريعة الله وحكم الله ، وعندهم ـ إلى جانب هذا ـ التوراة فيها شريعة الله وحكمه ؛ فيتطابق حكم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ