والله ـ سبحانه ـ يقول لرسوله في شأن هؤلاء المسارعين بالكفر ، وفي شأن هؤلاء المتآمرين المبيتين لهذه الألاعيب : لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. فهم يسلكون سبيل الفتنة ، وهم واقعون فيها ، وليس لك من الأمر شيء ، وما أنت بمستطيع أن تدفع عنهم الفتنة وقد سلكوا طريقها ولجوا فيها :
(وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ..
وهؤلاء دنست قلوبهم ، فلم يرد الله أن يطهرها ، وأصحابها يلجون في الدنس :
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) ..
وسيجزيهم بالخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة :
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ..
فلا عليك منهم ، ولا يحزنك كفرهم ، ولا تحفل بأمرهم. فهو أمر مقضي فيه ..
ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً. وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ..
كرر أنهم سماعون للكذب. مما يشي بأن هذه أصبحت خصلة لهم .. تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع الحق والصدق .. وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس .. ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفة ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات .. وما أروج الباطل في هذه الآونة وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونة!
وهؤلاء : سماعون للكذب. أكالون للسحت .. والسحت كل مال حرام .. والربا والرشوة وثمن الكلمة والفتوى! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان! وسمي الحرام سحتا لأنه يقطع البركة ويمحقها. وما أشد انقطاع البركة وزوالها من المجتمعات المنحرفة. كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله.
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه ـ فإن شاء أعرض عنهم ـ ولن يضروه شيئا ـ وإن شاء حكم بينهم. فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم ..
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ..
والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ؛ وإنما يقوم بالقسط لله. لأن الله يحب المقسطين. فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم. لأنه ليس عدلا لهم ؛ وإنما هو لله .. وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان.
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر. إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتميا. فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله. وأهلها جميعا ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعة. مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ وهو