فهذه الملابسة بين الربا والتجارة ، هي التي لعلها جعلت هذا الاستدراك ـ (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) يجيء عقب النهي عن أكل الأموال بالباطل. وإن كان استثناء منقطعا كما يقول النحويون!
(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ..
تعقيب يجيء بعد النهي عن أكل الأموال بالباطل ؛ فيوحي بالآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة الجماعة ؛ إنها عملية قتل .. يريد الله أن يرحم الذين آمنوا منها ، حين ينهاهم عنها!
وإنها لكذلك. فما تروج وسائل أكل الأموال بالباطل في جماعة : بالربا. والغش. والقمار. والاحتكار. والتدليس. والاختلاس. والاحتيال. والرشوة. والسرقة. وبيع ما ليس يباع : كالعرض. والذمة. والضمير. والخلق. والدين! ـ مما تعج به الجاهليات القديمة والحديثة سواء ـ ما تروج هذه الوسائل في جماعة ، إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها ، وتتردى في هاوية الدمار!
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة ، المردية للنفوس ؛ وهذا طرف من إرادة التخفيف عنهم ؛ ومن تدارك ضعفهم الإنساني ، الذي يرديهم حين يتخلون عن توجيه الله ، إلى توجيه الذين يريدون لهم أن يتبعوا الشهوات!
ويلي ذلك التهديد بعذاب الآخرة ، تهديد الذين يأكلون الأموال بينهم بالباطل ، معتدين ظالمين ، تهديدهم بعذاب الآخرة ؛ بعد تحذيرهم من مقتلة الحياة الدنيا ودمارها. الآكل فيهم والمأكول ؛ فالجماعة كلها متضامنة في التبعة ؛ ومتى تركت الأوضاع المعتدية الظالمة ، التي تؤكل فيها الأموال بالباطل تروج فيها فقد حقت عليها كلمة الله في الدنيا والآخرة :
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).
وهكذا يأخذ المنهج الإسلامي على النفس أقطارها ـ في الدنيا والآخرة ـ وهو يشرع لها ويوجهها ؛ ويقيم من النفس حارسا حذرا يقظا على تلبية التوجيه ، وتنفيذ التشريع ؛ ويقيم من الجماعة بعضها على بعض رقيبا لأنها كلها مسؤولة ؛ وكلها نصيبها المقتلة والدمار في الدنيا ، وكلها تحاسب في الآخرة على إهمالها وترك الأوضاع الباطلة تعيش فيها .. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) فما يمنع منه مانع ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتخلف ، متى وجدت أسبابه ، عن الوقوع!
وفي مقابل اجتناب «الكبائر» ـ ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل ـ يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه ـ سبحانه ـ وتيسيرا عليهم ، وتطمينا لقلوبهم ؛ وعونا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً).
ألا ما أسمح هذا الدين! وما أيسر منهجه! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة. وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم.
إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل ـ في الوقت ذاته ـ ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة.