(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).
مما يوحي بأنها عملية تطهير لبقايا رواسب الحياة الجاهلية في المجتمع الإسلامي ؛ واستجاشة ضمائر المسلمين بهذا النداء : «يا أيها الذين آمنوا» .. واستحياء مقتضيات الإيمان. مقتضيات هذه الصفة التي يناديهم الله بها ، لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل.
وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله ، أو نهى عنها ، ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها ، وجميع أنواع البيوع المحرمة ـ والربا في مقدمتها ـ ولا نستطيع أن نجزم إن كان هذا النص قد نزل بعد تحريم الربا أو قبله ؛ فإن كان قد نزل قبله ، فقد كان تمهيدا للنهي عنه. فالربا أشد الوسائل أكلا للأموال بالباطل. وإن كان قد نزل بعده ، فهو يشمله فيما يشمل من ألوان أكل أموال الناس بالباطل.
واستثنى العمليات التجارية التي تتم عن تراض بين البائع والشاري :
(إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) ..
وهو استثناء منقطع .. تأويله : ولكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فليست داخلة في النص السابق .. ولكن مجيئها هكذا في السياق القرآني ، يوحي بنوع من الملابسة بينها وبين صور التعامل الأخرى ، التي توصف بأنها أكل لأموال الناس بالباطل .. وندرك هذه الملابسة إذا استصحبنا ما ورد في آيات النهي عن الربا ـ في سورة البقرة ـ من قول المرابين في وجه تحريم الربا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) .. ورد الله عليهم في الآية نفسها : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) .. فقد كان المرابون يغالطون ، وهم يدافعون عن نظامهم الاقتصادي الملعون. فيقولون : إن البيع ـ وهو التجارة ـ تنشأ عنها زيادة في الأموال وربح. فهو ـ من ثم ـ مثل الربا.
فلا معنى لإحلال البيع وتحريم الربا! والفرق بعيد بين طبيعة العمليات التجارية والعمليات الربوية أولا ، وبين الخدمات التي تؤديها التجارة للصناعة وللجماهير ؛ والبلاء الذي يصبه الربا على التجارة وعلى الجماهير.
فالتجارة وسيط نافع بين الصناعة والمستهلك ؛ تقوم بترويج البضاعة وتسويقها ؛ ومن ثم تحسينها وتيسير الحصول عليها معا. وهي خدمة للطرفين ، وانتفاع عن طريق هذه الخدمة. انتفاع يعتمد كذلك على المهارة والجهد ؛ ويتعرض في الوقت ذاته للربح والخسارة ..
والربا على الضد من هذا كله. يثقل الصناعة بالفوائد الربوية التي تضاف إلى أصل التكاليف ويثقل التجارة والمستهلك بأداء هذه الفوائد التي يفرضها على الصناعة. وهو في الوقت ذاته ـ كما تجلى ذلك في النظام الرأسمالي عند ما بلغ أوجه ـ يوجه الصناعة والاستثمار كله وجهة لا مراعاة فيها لصالح الصناعة ولا لصالح الجماهير المستهلكة ؛ وإنما الهدف الأول فيها زيادة الربح للوفاء بفوائد القروض الصناعية. ولو استهلكت الجماهير مواد الترف ولم تجد الضروريات! ولو كان الاستثمار في أحط المشروعات المثيرة للغرائز ، المحطمة للكيان الإنساني .. وفوق كل شيء .. هذا الربح الدائم لرأس المال ؛ وعدم مشاركته في نوبات الخسارة ـ كالتجارة ـ وقلة اعتماده على الجهد البشري ، الذي يبذل حقيقة في التجارة .. إلى آخر قائمة الاتهام السوداء التي تحيط بعنق النظام الربوي ؛ وتقتضي الحكم عليه بالإعدام ؛ كما حكم عليه الإسلام (١)!
__________________
(١) يراجع ما كتبناه في الظلال في الجزء الثالث من ص ٣١٨ ـ ص ٣٢٨ ويراجع بتوسع ما كتبه الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية بباكستان في كتابه «الربا».