ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة. وبين الأشواق والضرورات. وبين الدوافع والكوابح. وبين الأوامر والزواجر. وبين الترغيب والترهيب. وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة ..
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه .. فأما بعد ذلك .. فهناك رحمة الله .. هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم ..
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه. أما مقارفة هذه الكبائر ـ وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة .. وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه .. وقد قال فيها : «والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ـ ومن يغفر الذنوب إلا الله ـ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون» .. وعدهم من «المتقين».
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين.
أما ما هي الكبائر .. فقد وردت أحاديث تعدد أنواعا منها ـ ولا تستقصيها ـ وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر ـ في كل حديث ـ ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم «الكبائر» من الذنوب. وإن كانت تختلف عددا ونوعا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل!
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية. تبين ـ مع ذلك كله ـ كيف قوّم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس:
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله ـ عزوجل ـ أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فاردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك. فقدم وقدموا معه. فلقي عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : متى قدمت؟ فقال : منذ كذا وكذا. قال : أبإذن قدمت؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه. فقال : أمير المؤمنين إن ناسا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك. قال : فاجمعهم لي. قال فجمعتهم له. قال أبو عون : أظنه قال : في بهو .. فأخذ أدناهم رجلا ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله! قال : نعم. قال : فهل أحصيته في نفسك؟ فقال : اللهم لا ـ ولو قال : نعم ، لخصمه! قال : فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك (١) .. ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال : وتلا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
__________________
(١) يعني هل أحصيته منفذا محققا في نفسك وفي بصرك وفي لفظك ... إلخ؟.