عن المشاعر الخافية ، والخواطر الكامنة ، والأسرار الدفينة. التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة. وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله ، المطلع على ذات الصدور ..
* * *
ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة ، القوامة على البشرية بالعدل .. العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن ؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال. العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات .. والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور .. ومن ثم فهذا النداء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ، وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ..
لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء. وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم. فهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل .. وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق. فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض! إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء. فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين!
والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة. فيقدم له بما يعين عليه :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ ...) ويعقب عليه بما يعين عليه أيضا :
(وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ..
إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط ، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله. حين تقوم لله ، متجردة عن كل ما عداه. وحين تستشعر تقواه ، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور.
وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ، ويثبتها عليه. وما غير القيام لله ، والتعامل معه مباشرة ، والتجرد من كل اعتبار آخر ، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى.
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين ، كما يكفله لهم هذا الدين ؛ حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر ؛ وأن يتعاملوا معه ، متجردين عن كل اعتبار.
وبهذه المقوّمات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير ؛ الذي يتكفل نظامه للناس جميعا ـ معتنقيه وغير معتنقيه ـ أن يتمتعوا في ظله بالعدل ؛ وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه ، يتعاملون فيها مع ربهم ، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن ..
وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية : مهما يكن فيها من مشقة وجهاد.
ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة ؛ وأدت تكاليفها هذه ؛ يوم استقامت على الإسلام. ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا ، ولكنها كانت واقعا من الواقع في حياتها اليومية ، واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ، ولم تعرفه في هذا المستوي إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة .. والأمثلة التي وعاها